يشهد الفضاء الخارجي تحولًا متسارعًا من كونه مجالًا تقنيًا بحتًا، إلى ساحة صراع قائمة بذاتها، حيث أصبح المدار الأرضي جزءًا من “هندسة الردع العسكري العالمية”. ومع ازدياد اعتماد الدول على الأقمار الاصطناعية في مجالات متعددة كالاتصالات والملاحة والأمن، باتت التهديدات الفضائية تشكل خطرًا مباشرًا على البنية التحتية للأمن القومي. هذا الاعتماد المتزايد، و التطورات الأخيرة، تجعل من الحرب الفضائية واقعًا يفرض نفسه على الساحة الدولية.
تزايد التوترات و سباق التسلح في الفضاء
خلال العام الماضي، ظهرت بوادر حملة فضائية هجينة، يُتهم فيها بشكل أساسي كل من روسيا والصين، تستهدف البنية الفضائية الأوروبية عبر التشويش والاقتراب المداري والهجمات السيبرانية. وقد أثارت هذه التطورات قلقًا عميقًا لدى صانعي القرار في أوروبا، الذين أدركوا أن الفضاء لم يعد منطقة محايدة، بل ساحة مواجهة صامتة تتطلب الاستعداد.
أكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن “الحرب تدار في الفضاء، وحروب الغد ستبدأ من هناك”، وهو تصريح يعكس التحول في العقيدة الأمنية الأوروبية. لم يكن هذا مجرد تعبير عن القلق، بل جاء نتيجةً لتراكم تقارير أمنية وتقنية تشير إلى أن المدار الأرضي أصبح مسرحًا للتوترات الجيوسياسية.
روسيا.. مناورات واختبارات مقلقة
وثقت تقارير بريطانية حديثة محاولات روسية متكررة للتشويش على الأقمار البريطانية، مما أثر على قدرة الطائرات على الهبوط في المطارات. وأفاد برنامج “سكاي نت” للاتصالات العسكرية البريطانية، وهو جزء حيوي من شبكة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، برصد تلك التشويشات. كما أشارت تقارير شركة “سبايس غلوبل” إلى تسجيل 84 ساعة من التشويش الروسي في منطقة واسعة من أوروبا الشمالية خلال شهري يوليو وأغسطس الماضيين.
وقد تعرّضت طائرة رئيس المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، أيضًا للتشويش أثناء تحليقها فوق بلغاريا، مما أثار اتهامات روسية بالتدخل المتعمد في أنظمة الملاحة.
الصين.. تطوير القدرات وتحالفات استراتيجية
في الوقت ذاته، تعمل الصين على تطوير قدرات فضائية متقدمة، وبوتيرة متسارعة، مما يثير مخاوف بشأن طموحاتها للهيمنة التكنولوجية. أعلنت وزارة الدفاع الصينية عن خطط لتوسيع أسطول الأقمار الاصطناعية وتعزيز قدرات المراقبة والاستخبارات. وتعمل الصين على بناء شراكات استراتيجية مع دول أخرى في مجال الفضاء، مما يعزز من نفوذها العالمي.
التهديدات الهجينة وتأثيرها على أوروبا
تتنوع التهديدات الفضائية التي تواجه أوروبا، وتشمل التشويش على الإشارات، والهجمات السيبرانية على الأقمار الصناعية، ومحاولات الاقتراب المداري. تعتبر هذه التهديدات “هجينة” لأنها تجمع بين الأساليب التقنية والسياسية والعسكرية. و تهدف إلى إضعاف القدرات الفضائية الأوروبية وتعطيل عمل البنية التحتية الحيوية.
أعلنت ألمانيا عن ميزانية كبيرة لتعزيز استقلالها التكنولوجي وقدراتها الدفاعية في الفضاء، بينما أطلقت فرنسا مشروعًا فضائيًا وطنيًا يركز على تطوير أنظمة متقدمة للحماية والردع. إلا أن تفاوت وجهات النظر بين الدول الأوروبية عرقل جهود بناء قوة فضائية أوروبية موحدة،
وثيقة الطوارئ الصحية الفرنسية.. مؤشر على القلق المتزايد
كشفت صحيفة “لو كانار أونشيني” الفرنسية عن وثيقة سرية من وزارة الصحة الفرنسية، تطالب الوكالات الإقليمية بالاستعداد لاستقبال أعداد كبيرة من الجنود المصابين في حال اندلاع صراع واسع النطاق في أوروبا. يعكس هذا التسريب مدى القلق المتزايد لدى المسؤولين الفرنسيين بشأن التوترات الجيوسياسية وتأثيرها المحتمل على الأمن الأوروبي.
خطوات مستقبلية و تحديات قائمة
يشير الوضع الحالي إلى أن سباق التسلح في الفضاء سيستمر في التطور، وأن التهديدات الفضائية ستزداد تعقيدًا. من المتوقع أن تشهد السنوات القليلة القادمة زيادة في الاستثمارات في مجال الدفاع الفضائي، وتطوير أنظمة متقدمة للحماية والردع. وسيظل التنسيق بين الدول الأوروبية تحديًا رئيسيًا، حيث يتطلب بناء قوة فضائية موحدة توافقًا سياسيًا وتقنيًا.
مع استمرار التوترات الجيوسياسية، فإن مراقبة التطورات في الفضاء ستكون أمرًا بالغ الأهمية للحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين. ويبقى السؤال مفتوحًا حول ما إذا كانت أوروبا ستتمكن من التكيف مع هذا الواقع الجديد، وتطوير القدرات اللازمة لحماية مصالحها في الفضاء.













