كشفت دراسة حديثة أن ما يُعرف بـ **حساسية الغلوتين** قد لا يكون مرتبطًا بالغلوتين نفسه، بل هو جزء من تفاعل معقد بين الأمعاء والدماغ. وتثير هذه النتائج تساؤلات حول الطرق التقليدية لتشخيص هذه الحالة وعلاجها، مما قد يؤدي إلى تجنب القيود الغذائية غير الضرورية للملايين حول العالم.
أُجريت الدراسة من قبل باحثين في جامعة ملبورن بأستراليا، ونُشرت نتائجها في مجلة “ذا لانسيت” في 22 أكتوبر/تشرين الأول 2025. وبحسب الباحثين، فإن هذه النتائج يمكن أن تشكل معيارًا جديدًا لفهم وعلاج الأعراض التي ينسبها الكثيرون إلى حساسية الغلوتين.
إعادة النظر في مفهوم حساسية الغلوتين
يُعد الغلوتين بروتينًا طبيعيًا موجودًا في بعض أنواع الحبوب مثل القمح والشعير والجاودار. يعاني الأشخاص المصابون بحساسية الغلوتين غير المرتبطة بمرض السيلياك من أعراض هضمية وعصبية بعد تناول الأطعمة التي تحتوي على الغلوتين، ولكنهم لا يظهرون علامات الالتهاب المناعي التي تميز مرض السيلياك. تشمل هذه الأعراض الانتفاخ، وآلام البطن، والتعب، والصداع.
صرحت الدكتورة جيسيكا بيزيكيرسكي، الباحثة الرئيسية في الدراسة، أن النتائج تقلب افتراضات طويلة الأمد حول هذه الحالة. وبشكل خاص، وجدت الدراسة أن غالبية الأفراد الذين يعتقدون أنهم يعانون من حساسية الغلوتين لا يظهرون استجابة مناعية فعلية للغلوتين عند اختبارهم.
وأوضحت الدكتورة جيسيكا أن الأعراض التي يعاني منها هؤلاء الأفراد غالبًا ما تكون مرتبطة بالكربوهيدرات القابلة للتخمير الموجودة في القمح، أو مكونات أخرى في الحبوب، أو حتى بتوقعاتهم وتجاربهم السابقة مع الطعام. يشير هذا إلى دور هام لعوامل نفسية وسلوكية في تطور الأعراض.
الأمعاء والدماغ: علاقة معقدة
ركزت الدراسة على العلاقة بين الأمعاء والدماغ، وهي محور اهتمام متزايد في الأبحاث الطبية. ويُعرف هذا المحور بأنه شبكة معقدة من الاتصالات بين الجهاز الهضمي والجهاز العصبي المركزي، والتي يمكن أن تؤثر على كل من الهضم والصحة العقلية.
وقد توصل الباحثون إلى أن الأعراض التي يعاني منها الأشخاص الذين يعتقدون أنهم يعانون من حساسية الغلوتين قد تكون ناتجة عن تغييرات في وظيفة الأمعاء، والتي تؤثر بدورها على إشارات الدماغ. هذا يشبه ما يحدث في حالات أخرى مثل **متلازمة القولون العصبي** (IBS)، والتي تتميز بأعراض هضمية مزمنة مرتبطة بالتوتر والقلق.
بالإضافة إلى ذلك، أشار الباحثون إلى أن تأثير “الوهم” (placebo) يلعب دورًا كبيرًا في هذه الحالة. فإذا كان الشخص يعتقد أن الغلوتين هو سبب أعراضه، فإنه قد يختبر رد فعل سلبي حتى لو كان يتناول دواء وهميًا.
تأثيرات على العلاج والممارسات الغذائية
تؤكد نتائج هذه الدراسة على أهمية تبني نهج شامل وعقلي-جسدي في علاج ما يسمى بـ **حساسية الغلوتين**. بدلًا من التركيز فقط على إزالة الغلوتين من النظام الغذائي، يجب على الأطباء معالجة العوامل النفسية والسلوكية التي قد تساهم في الأعراض.
يتضمن ذلك تقديم الدعم النفسي، وتعليم المرضى استراتيجيات إدارة الإجهاد، وتعديل النظام الغذائي بطرق أكثر استهدافًا. الانتقال إلى نظام غذائي خالٍ من الغلوتين بشكل صارم قد لا يكون هو الحل الأمثل للجميع، وقد يكون له آثار سلبية على الصحة العامة إذا لم يتم التخطيط له بشكل صحيح. الاستشارة مع أخصائي تغذية مؤهل أمر ضروري.
كما أن لهذه النتائج تأثيرًا على الصحة العامة، حيث يشير الباحثون إلى ضرورة تعديل الرسائل الترويجية المتعلقة بالغلوتين. فبدلًا من تصويره على أنه مادة ضارة بطبيعتها، يجب التركيز على أهمية التغذية المتوازنة والاستماع إلى احتياجات الجسم الفردية.
يشير فريق البحث إلى أن الخطوة التالية هي إجراء المزيد من الدراسات لتحديد الآليات الدقيقة التي تربط بين الأمعاء والدماغ في سياق حساسية الغلوتين. وتشمل هذه الدراسات استخدام تقنيات التصوير العصبي لتقييم نشاط الدماغ استجابةً للأطعمة المختلفة، وتحليل الميكروبيوم المعوي لتحديد التغيرات التي قد تساهم في الأعراض. من المتوقع أن تتوفر نتائج هذه الدراسات الإضافية بحلول أواخر عام 2026.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه النتائج لا تقلل من أهمية الالتزام بنظام غذائي خالٍ من الغلوتين للأشخاص المصابين بمرض السيلياك أو الحساسية الشديدة للقمح، حيث أن هذه الحالات تتطلب إدارة طبية صارمة. ولكنها تشير إلى أن حساسية الغلوتين غير المرتبطة بهذه الحالات قد تكون أكثر تعقيدًا مما نعتقد، وأن العلاج الفعال يتطلب فهمًا أعمق للعلاقة بين الأمعاء والدماغ.













