في أقصى درجات التعقيم، حيث لا تُترك حتى ذرة غبار واحدة، اكتشف علماء أحياء دقيقة نوعًا فريدًا من البكتيريا يظهر قدرة مذهلة على النجاة. هذه البكتيريا، المعروفة باسم تيرسيكوكوس فونيسيس، تمكنت من الإفلات من إجراءات التعقيم القاسية في منشآت وكالة ناسا، مما أثار تساؤلات حول فهمنا للحياة الميكروبية وقدرتها على التكيف. وقد نشرت نتائج هذه الدراسة الهامة في مجلة “ميكروبيولوجي سبكتروم”.
اكتشف هذا الكائن الدقيق لأول مرة منذ أكثر من عقد من الزمان في غرف تجميع المركبات الفضائية، وهي بيئات مصممة لمنع أي تلوث ميكروبي. وبسبب الظروف القاسية، افترض العلماء في البداية أنها كانت ميتة، ولكن البحوث الأخيرة كشفت أنها كانت في حالة من السبات العميق، وهو ما يمثل تحديًا كبيرًا لجهود التعقيم التقليدية.
بيئات التعقيم لا تخلو من الحياة: دراسة تيرسيكوكوس فونيسيس
تعتبر غرف التنظيف الفائق ضرورية لتصنيع المركبات الفضائية، حيث يجب أن تكون خالية تمامًا من الكائنات الحية الدقيقة. تستخدم هذه الغرف تقنيات متقدمة مثل مرشحات الهواء عالية الكفاءة، والضغوط الهوائية الموجهة، والأشعة فوق البنفسجية، وغازات التعقيم، لضمان النقاء. ومع ذلك، أظهرت عمليات المسح الميكروبي التي أجرتها ناسا ووكالة الفضاء الأوروبية باستمرار وجود مئات الأنواع البكتيرية، بعضها لم يتم وصفه من قبل.
وقد لفت الانتباه بشكل خاص اكتشاف تيرسيكوكوس فونيسيس في غرفتين متباعدتين جغرافيًا بشكل كبير – مركز كينيدي للفضاء في فلوريدا، وغرفة تابعة لوكالة الفضاء الأوروبية في غويانا الفرنسية. على الرغم من أن البكتيريا لم تظهر أي ضرر مباشر على البشر أو المعدات، إلا أن وجودها المستمر أثار مخاوف بشأن قدرتها على البقاء وتقويض بروتوكولات التعقيم.
كيف تنجو البكتيريا في بيئات معقمة؟
تُظهر بعض الكائنات الدقيقة قدرة مذهلة على البقاء في البيئات القاسية من خلال آليات مختلفة. بعضها يستهلك المواد المستخدمة في التنظيف نفسه، بينما يحتمي البعض الآخر داخل أبواغ سميكة الجدران قادرة على تحمل الظروف البيئية السيئة لفترات طويلة جدًا. ولكن تيرسيكوكوس فونيسيس تتبع استراتيجية فريدة من نوعها: الدخول في حالة من السبات العميق أو الكُمون.
أظهرت الأبحاث التي أجراها الدكتور مادها تيرومالاي وفريقه في جامعة هيوستن أن هذه البكتيريا تدخل في حالة خمول تام عند الحرمان من الماء والعناصر الغذائية. في هذه الحالة، تتوقف جميع الأنشطة الحيوية تقريبًا، مما يجعلها غير قابلة للكشف بالطرق التقليدية. ومع ذلك، فإنها لا تموت، بل تنتظر ببساطة الظروف المناسبة للعودة إلى الحياة.
لقد كشفت دراسة الجينوم أن البكتيريا تحمل جينًا لإنتاج بروتين يُعرف باسم “عامل تنشيط الإحياء”. عندما أضاف الباحثون هذا البروتين إلى الخلايا النائمة، استيقظت البكتيريا وبدأت في النمو مرة أخرى، مما يؤكد أنها كانت في حالة سبات وليست ميتة. هذا يشير إلى أن وجود بكتيريا أخرى قادرة على إفراز هذا البروتين يمكن أن يسمح لـ تيرسيكوكوس فونيسيس بالبقاء والازدهار حتى في البيئات المعقمة.
هذه القدرة على البقاء في حالة سبات عميق لها آثار كبيرة على الحماية الكوكبية. فإذا تمكنت هذه البكتيريا من “ركوب” مركبة فضائية إلى كوكب آخر، فقد تستيقظ وتبدأ في النمو في بيئة جديدة، مما قد يؤدي إلى تلويثها بالكائنات الحية الأرضية وإرباك البحث عن الحياة خارج كوكب الأرض. كما أن هذا يثير مخاوف بشأن تأثير هذه البكتيريا على صحة رواد الفضاء خلال بعثات طويلة المدى.
تداعيات اكتشاف البكتيريا المتخفية
إن اكتشاف تيرسيكوكوس فونيسيس لا يقتصر على وكالات الفضاء. فهي تثير تساؤلات حول فعالية بروتوكولات التعقيم في مجموعة متنوعة من البيئات الحساسة، مثل غرف العمليات الطبية، ومختبرات الأدوية، ومنشآت إعداد الطعام. إذا كانت هذه البكتيريا قادرة على الاختباء في هذه البيئات، فما هي الأنواع الأخرى من الكائنات الدقيقة التي قد تفعل الشيء نفسه؟
ينصح العلماء الآن بتحديث إجراءات الكشف والتعقيم لضمان تحديد وإزالة هذه البكتيريا النائمة. يشمل ذلك استخدام تقنيات أكثر حساسية للكشف عن الحمض النووي، وتطوير طرق لتحفيز البكتيريا على الاستيقاظ قبل القضاء عليها. يجري أيضًا بحث حول استخدام عوامل مضادة للميكروبات مُستهدفة يمكن أن تقتل هذه البكتيريا بشكل فعال دون الإضرار بالكائنات الأخرى.
من المتوقع أن تركز الأبحاث المستقبلية على فهم الآليات الجزيئية التي تسمح لـ تيرسيكوكوس فونيسيس بالدخول في حالة السبات والبقاء على قيد الحياة فيها. سيساعد هذا في تحديد نقاط الضعف المحتملة التي يمكن استغلالها لتطوير إجراءات تعقيم أكثر فعالية. بالإضافة إلى ذلك، سيهدف العلماء إلى تقييم انتشار هذه البكتيريا في البيئات المختلفة وتقدير المخاطر المحتملة التي تشكلها. تعتبر هذه الخطوات حاسمة لضمان سلامة استكشاف الفضاء وحماية صحة الإنسان على الأرض.













