لم يعد كثير من الشباب يقتنعون بفكرة انتظار سن التقاعد لتحقيق أحلام مثل السفر حول العالم، أو التدريب لنصف ماراثون طال حلمهم به، أو التطوع في عمل خيري محلي. هذه النظرة التقليدية تتعارض مع مفهوم التوازن بين العمل والحياة لدى الجيل الجديد، ما أدى إلى ظهور اتجاه مهني جديد مدعومًا بوسائل التواصل الاجتماعي: “التقاعد المصغّر” (Micro-retirement).. فما المقصود بهذا المفهوم الجديد، وما هي آثاره على المسار المهني؟
يشير مصطلح التقاعد المصغّر إلى فترات توقف مقصودة عن العمل، أو استراحات مهنية قصيرة المدى، تهدف إلى تحقيق أهداف شخصية أو اكتساب تجارب جديدة. يظهر هذا الاتجاه بشكل متزايد بين جيل الألفية والجيل زد، الذين يعيدون تعريف العلاقة بين العمل والحياة، ويضعون أولوية أكبر للرفاهية الشخصية والمرونة المهنية.
اقرأ أيضا
list of 2 items
end of list
ما هو التقاعد المصغّر؟
توضح مارلين بوهلمان، خبيرة المسار المهني في شركة التوظيف الألمانية “روبرت هاف”، أن التقاعد المصغّر هو ببساطة فترة توقف مقصودة عن العمل، أو استراحة مهنية تمتد لعدة أشهر. وعادة ما تتم هذه الاستراحة بين وظيفتين، بحيث تكون كافية للسفر، أو قضاء وقت أطول مع العائلة، أو ممارسة هوايات جديدة. تعتبر هذه الفترات فرصة لإعادة تقييم الأهداف المهنية والشخصية، وتحديد الأولويات المستقبلية.
وتضيف بوهلمان: “بدلًا من انتظار التقاعد في نهاية الحياة المهنية المستمرة، يتعمد الموظفون إدخال فترات انقطاع خلال مسارهم الوظيفي”. هذا التحول يعكس رغبة في الاستمتاع بالحياة بشكل كامل، وعدم تأجيل السعادة إلى المستقبل البعيد.
الفرق بين التقاعد المصغر والإجازة الطويلة
من المهم التمييز بين التقاعد المصغّر والإجازة طويلة المدى (Sabbatical)، التي يمنحها صاحب العمل للموظف مع تخفيض في الراتب خلال فترة الغياب. الإجازة طويلة المدى عادة ما تكون مرتبطة بالعمل، مثل إجراء بحث علمي أو تطوير مهارات مهنية، بينما التقاعد المصغّر يركز بشكل أكبر على الأهداف الشخصية والراحة.
لماذا يزداد شعبية التقاعد المصغر؟
ترى بوهلمان أن هناك عدة عوامل تجعل فكرة التقاعد المصغّر جذابة لجيل “زد”، المولود تقريبًا بين منتصف التسعينيات ومنتصف العقد الثاني من الألفية، أولها أن هذا الجيل يعطي أهمية كبيرة لتوازن صحي بين الحياة والعمل، وللرفاه النفسي، ولتحقيق الذات. كما أنهم أقل ارتباطًا بفكرة الولاء للشركة الواحدة، وأكثر استعدادًا لتغيير وظائفهم بحثًا عن فرص أفضل.
بالإضافة إلى ذلك، طبيعة سوق العمل تغيّرت؛ فلم تعد المسارات المهنية خطية أو صارمة كما كانت سابقًا. تقول بوهلمان: “الموظفون الأصغر سنا غالبا ما يعملون لدى 10 أرباب عمل أو أكثر خلال حياتهم المهنية”. هذه المرونة تتيح لهم الفرصة لأخذ فترات راحة بين الوظائف دون القلق بشأن التأثير السلبي على مسيرتهم المهنية.
وتضيف أن الكثير من الشباب لا يشعرون بالثقة تجاه مستقبل معاشاتهم التقاعدية، معتبرين أنه وعد قد لا يتحقق، بالإضافة إلى خشيتهم من أن يكون العمر قد تقدّم بهم حين يصلون إلى سن التقاعد، بما يفقدهم القدرة على الاستمتاع بالحياة. هذا القلق يدفعهم إلى البحث عن طرق للاستمتاع بحياتهم الآن، وعدم الاعتماد بشكل كامل على المعاش التقاعدي في المستقبل.
مخاطر ومزايا التقاعد المصغر
لكن تأثير فترات التوقف المتكررة على المسار المهني ليس واضحا دائما؛ إذ يجب النظر إلى عدة مخاطر محتملة. ففي بعض الدول، يُنظر إلى السجل الوظيفي الخالي من الانقطاعات باعتباره معيارا مهما لدى أصحاب العمل. التخطيط المالي هو جانب أساسي يجب مراعاته قبل اتخاذ هذه الخطوة.
كما تحذر بوهلمان من أن الذين يأخذون فترات توقف قد يفوتون فرص ترقيات محتملة، لأن الوجود في المكان المناسب وفي الوقت المناسب يؤثر كثيرًا، ومن يقلّ حضوره تقل فرص ملاحظته. الاستثمار في المهارات خلال فترات التوقف يمكن أن يساعد في التخفيف من هذه المخاطر.
في المقابل، يمنح التقاعد المصغّر وقتا أكبر لتطوير الذات، مثل تعزيز المهارات الشخصية، والمرونة، والإبداع. كما يمكن أن يساعد في تحسين الصحة النفسية والجسدية، وتقليل مستويات التوتر.
ويعتمد مدى تأثير فترات الانقطاع على المسيرة المهنية على ما إذا كانت توقعات الفرد للتوازن بين الحياة والعمل تتوافق مع ثقافة المجال الذي يعمل فيه أو مع سياسة صاحب العمل. الشفافية مع صاحب العمل بشأن خطط التقاعد المصغر يمكن أن تساعد في بناء الثقة وتجنب سوء الفهم.
وتشير بوهلمان إلى أن القطاعات التقليدية مثل القطاع المالي، والمهن القانونية، والهندسة، غالبًا ما تنظر سلبًا إلى الانقطاعات الطويلة. أما قطاع التكنولوجيا فيُعد أكثر تقبّلا لهذا النوع من المرونة، نظرًا لندرة الكفاءات. وفي المهن الإبداعية، يُعتبر الحصول على فترات راحة بين الوظائف أمرًا طبيعيا ومتكررا.
وتنصح بوهلمان أي شخص يفكر في خوض تجربة التقاعد المصغّر بأن يقيّم العواقب جيدًا. وتقول: “السؤال الأول يجب أن يكون: هل أريد حقًا القيام بذلك؟”، ثم تأتي الأسئلة العملية مثل: هل أستطيع تحمّل التكلفة؟ إذ يحتاج من يترك وظيفته عادةً إلى رصيد ادخاري كافٍ. كما ينبغي التفكير في طريقة تأثير هذا القرار على التأمين الصحي ونظام التقاعد. وفي كل الأحوال، من الضروري أن تكون لدى الشخص خطة واضحة لكيفية استثمار فترة التوقف، وما الذي يعتزم فعله بعدها.
من المتوقع أن يشهد مفهوم التقاعد المصغر المزيد من الانتشار خلال السنوات القادمة، مع تزايد اهتمام جيل زد والتنقل الوظيفي. سيكون من المهم مراقبة ردود فعل أصحاب العمل وتطور السياسات المتعلقة بالمرونة المهنية، بالإضافة إلى تقييم الأثر طويل الأمد لهذه الفترات القصيرة من التقاعد على مسيرة المهنيين.













