تكتسب قضية اللاجئين الفلسطينيين أهمية متزايدة في الأوساط الأكاديمية والسياسية، حيث يرى الباحثون أنها تتجاوز كونها أزمة إنسانية لتشكل حالة فريدة في دراسات الاستعمار، والجغرافيا السياسية، والنظرية السياسية المعاصرة. فالمخيم الفلسطيني لم يعد مجرد موقع مؤقت، بل تحول إلى بنية سياسية واجتماعية معقدة تتحدى الروايات التقليدية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
في كتابه الجديد “الزمن تحت الخرسانة: فلسطين بين المخيم والمستعمرة”، والذي حاز على جائزة “الكتاب الأول للباحثين الملونين”، يقدم الباحث ناصر أبو رحمة تحليلاً معمقاً يربط بين تاريخ المخيمات والمشروع الاستيطاني الصهيوني. يجادل أبو رحمة بأن فهم القضية الفلسطينية يتطلب قراءة متأنية للمخيم، ليس كمكان فحسب، بل كحيز زماني وسياسي يعطل مساعي إسرائيل لتحقيق الاستقرار والشرعية.
أهمية دراسة المخيمات الفلسطينية
يركز عمل أبو رحمة على فكرة أن المخيمات الفلسطينية ليست مجرد نتيجة جانبية للصراع، بل هي جزء لا يتجزأ منه. فقد نشأت هذه المخيمات في أعقاب النكبة عام 1948، وأصبحت رمزاً للتهجير القسري والحرمان من الحقوق. لكنها في الوقت نفسه، تحولت إلى مراكز للمقاومة والتعبئة السياسية، وشكلت هوية فلسطينية متميزة.
يشير أبو رحمة إلى أن السياسات المبكرة التي اتبعتها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) لم تكن مجرد استجابة إنسانية، بل كانت محاولة لإعادة دمج اللاجئين في سوق العمل الإقليمي، وبالتالي إخماد طموحاتهم في العودة إلى ديارهم. لكن هذه السياسات باءت بالفشل، مما أدى إلى تثبيت المخيمات كواقع دائم.
“التكنو إمبريالية” وتشكيل المخيم
يستخدم أبو رحمة مصطلح “التكنو إمبريالية” لوصف الطريقة التي استخدمت بها التكنولوجيا والإدارة الحديثة لإدارة السكان الفلسطينيين في المخيمات. ويوضح أن هذه السياسات لم تكن محايدة، بل كانت تهدف إلى فرض رؤية استعمارية للواقع الفلسطيني. فقد سعت أونروا إلى تحويل اللاجئين من فلاحين ومقاتلين إلى عمال منضبطين، وذلك من خلال بناء المخيمات وتنظيم الحياة فيها.
ومع ذلك، يرى أبو رحمة أن هذه الجهود لم تنجح في القضاء على الروح المقاومة للاجئين. فقد استمر اللاجئون في المطالبة بحقهم في العودة، وفي تنظيم حياتهم السياسية والاجتماعية داخل المخيمات. وهذا ما جعل المخيمات تحدياً دائماً للمشروع الاستيطاني الصهيوني.
المخيمات كحاضنة للثورة والمقاومة
مع تصاعد الحركات الوطنية الفلسطينية في الستينيات والسبعينيات، تحولت المخيمات إلى حاضنة للثورة والمقاومة. فقد شهدت المخيمات الفلسطينية في لبنان والأردن وسوريا صراعات مسلحة مع الحكومات المضيفة، ومع إسرائيل. وقد لعبت منظمة التحرير الفلسطينية دوراً محورياً في تنظيم هذه الحركات، وفي تحويل المخيمات إلى قواعد انطلاق للعمل الفدائي.
يشير أبو رحمة إلى أن إسرائيل نظرت إلى المخيمات الفلسطينية كتهديد وجودي، وسعت إلى تفكيكها بكل الوسائل الممكنة. وقد شملت هذه الوسائل الهدم والتوسع الاستيطاني، ومحاولات إغراء اللاجئين بالانتقال إلى مناطق أخرى. لكن هذه الجهود لم تنجح في القضاء على المخيمات، بل زادت من تصميم اللاجئين على التمسك بحقهم في العودة.
“سياسات السكنى” وتحدي الاستعمار
يقدم أبو رحمة في كتابه مفهوم “سياسات السكنى” كإطار نظري لفهم نضالات اللاجئين والمهمشين حول العالم. ويوضح أن الحق في السكن ليس مجرد حق إنساني، بل هو حق سياسي أساسي. فالقدرة على بناء مأوى، وعلى تشكيل مجتمع داخل “اللاحيز”، تمثل شكلاً جديداً من المقاومة ضد أنظمة الاستعمار والقمع.
يؤكد أبو رحمة أن المخيمات الفلسطينية تمثل نموذجاً أولياً لهذا النوع من المقاومة. فقد تمكن اللاجئون الفلسطينيون من تحويل المخيمات من فضاء للموت الاجتماعي إلى منصة للمطالبة بالحقوق وبناء الحياة. وهذا ما يجعل قضية اللاجئين الفلسطينيين ذات أهمية عالمية.
من المتوقع أن يثير كتاب “الزمن تحت الخرسانة” نقاشاً واسعاً في الأوساط الأكاديمية والسياسية حول مستقبل القضية الفلسطينية. ويراقب الخبراء عن كثب ردود الفعل على الكتاب، وكيف سيؤثر على السياسات المتعلقة باللاجئين الفلسطينيين. كما يترقبون صدور ترجمات للكتاب إلى لغات أخرى، مما سيزيد من انتشاره وتأثيره.













