تُعدّ الأدوية المستخلصة من مصادر طبيعية مجالاً متنامياً للبحث والتطوير، ومن بين هذه المصادر تبرز الطحالب كخلايا واعدة. ورغم التركيز التقليدي على الطحالب البحرية أو تلك التي تنمو في المياه العذبة المعتدلة، إلا أن الاهتمام يتزايد بطحالب الصحراء، لما تتميز به من مركبات فريدة وقوية ناتجة عن بيئتها القاسية. وقد أظهرت دراسة حديثة، أجراها باحثون من جامعة غدانسك في بولندا بالتعاون مع جامعة تلمسان في الجزائر، وجود نوع من الطحالب، وهو سبيروجيرا، في واحة بني عباس، يحمل مؤشرات واعدة في مكافحة البكتيريا والسرطان.
تقع واحة بني عباس في ولاية بشار جنوب غرب الجزائر، وهي منطقة تتميز بظروف مناخية صحراوية قاسية. اكتشاف هذه الطحالب في هذه البيئة لم يكن مفاجئاً بحد ذاته، فالسبيروجيرا من الكائنات الحية المعروفة في المياه العذبة. ومع ذلك، فإن ما يميز هذا الاكتشاف هو الخصائص الفريدة التي أظهرتها هذه السلالة من سبيروجيرا، والتي قد تفتح آفاقًا جديدة في مجال التطبيقات الدوائية والصناعية.
تحديد هوية الطحالب وخصائصها المميزة
بدأت عملية البحث بتحديد دقيق لهوية هذا النوع من الطحالب. اعتمد الباحثون على الفحص المجهري لدراسة التركيب الخارجي للخلايا، بما في ذلك شكلها وحجمها ومحتواها من الكلوروفيل. بالإضافة إلى ذلك، أجري تحليل جيني دقيق، حيث تم فحص ثلاثة جينات أساسية تُستخدم عالميًا في تصنيف الطحالب: “آر بي سي إل”، و”إيتين إس آر آر إن إيه”، و”تونتي-ثري إس آر آر إن إيه”.
وكشفت التحاليل أن الحمض النووي لهذا النوع من سبيروجيرا يختلف عن الأنواع المعروفة والمُسجلة عالميًا. وتقول الدكتورة هانا مازور مارزك، الأستاذة في جامعة غدانسك والباحثة الرئيسية في الدراسة: “لا ندعي أننا اكتشفنا نوعًا جديدًا تمامًا من سبيروجيرا، لأن ذلك يتطلب دراسات أكثر تعمقًا. لكننا نؤكد أن سبيروجيرا من الصحراء الجزائرية تحمل بصمة وراثية مميزة، مما يشير إلى احتمال أنها نوع جديد أو سلالة نادرة.”
استخلاص المركبات النشطة
بعد تحديد الهوية، انتقل الباحثون إلى المرحلة الأكثر تحديًا: استخلاص المواد الفعالة من الطحالب. تضمنت هذه العملية تجفيف الطحالب وطحنها إلى مسحوق ناعم، ثم استخدام الميثانول والماء كمذيبات لاستخلاص المركبات النباتية النشطة.
لاحقاً، تم فصل هذه المركبات باستخدام تقنية الكروماتوغرافيا السريعة، وهي تقنية متطورة تسمح بفصل المواد الكيميائية إلى أجزاء نقية. وسمح هذا للفريق بتحليل كل جزء على حدة وتقييم نشاطه الحيوي.
نتائج الاختبارات الحيوية
تم اختبار الأجزاء المختلفة من المستخلصات ضد ثلاثة أنواع من الأنشطة الحيوية الرئيسية. أولاً، تم تقييم النشاط المضاد للأكسدة، حيث أظهر الجزء المسمى “إف 5” قدرة عالية على منع تلف الخلايا الناتج عن الجذور الحرة، ويرجع ذلك إلى احتوائه على نسبة مرتفعة من مركبات الغالوتانينات المعروفة بخصائصها المضادة للأكسدة. ثانياً، تم اختبار قدرة المستخلصات على مكافحة البكتيريا، حيث أظهر الجزء “إف 5” أيضاً فعالية ملحوظة في تثبيط نمو العديد من السلالات البكتيرية.
أما الاختبار الثالث، فتمثل في تقييم النشاط المضاد للسرطان. وكشفت النتائج أن الأجزاء “إف 2″ و”إف 8″ و”إف 9” قتلت الخلايا السرطانية، ولكنها كانت سامة أيضًا للخلايا الطبيعية، مما يقلل من إمكانية استخدامها في الأدوية. ومع ذلك، برزت الأجزاء “إف 3″ و”إف 10” باعتبارهما أكثر أمانًا، حيث استهدفت الخلايا السرطانية فقط دون التأثير على الخلايا السليمة.
مستقبل البحث في الطحالب الصحراوية
تؤكد الدكتورة مارزك أن هذه النتائج تمثل بداية واعدة، ولكنها ليست نهائية. تشير إلى أن الخطوة التالية ستكون عزل وتنقية المركبات النشطة التي تم تحديدها، ثم اختبار كل مركب على حدة لتحديد المسؤول الدقيق عن كل نشاط بيولوجي. وبالنسبة لإمكانية وجود هذه المركبات في أنواع أخرى من الطحالب، تقول: “من المرجح أن يكون هناك بعض التشابه، لكن التركيب الكيميائي يختلف من سلالة إلى أخرى. الطحالب الجزائرية قد تكون فريدة بسبب الظروف البيئية القاسية التي تنمو فيها”.
ويأمل الباحثون أن تتوسع جهود البحث في التنوع البيولوجي الغني للجزائر، بما في ذلك الطحالب، وأن يتم استغلال هذه الكائنات الحية في تطوير أدوية وصناعات جديدة. ومن المتوقع أن يتم تقديم نتائج أكثر تفصيلاً في مؤتمر علمي دولي خلال العام المقبل، مما سيساعد في تسليط الضوء على الإمكانات الهائلة التي تحملها الطحالب الصحراوية.













