في وادي السيليكون، يمثل مختبر الأبحاث “زيروكس بارك” (Xerox PARC) علامة فارقة في تاريخ التكنولوجيا، حيث أرسى أسس العديد من الابتكارات التي نعتمد عليها اليوم. تأسس هذا المختبر كجزء من شركة “زيروكس”، وسرعان ما أصبح مركزًا رئيسيًا لتطوير تقنيات الحوسبة الشخصية، بما في ذلك واجهة المستخدم الرسومية والفأرة، مما أحدث ثورة في طريقة تفاعلنا مع التكنولوجيا. هذه الابتكارات، التي ظهرت في وقت كانت فيه الحوسبة حكرًا على المؤسسات الكبرى، غيرت مسار التطور التكنولوجي.
يعود تاريخ “زيروكس بارك” إلى عام 1969، عندما أدركت شركة “زيروكس” الحاجة إلى مختبر أبحاث متطور يتجاوز تحسين آلات النسخ التقليدية. كان الهدف هو استكشاف آفاق جديدة في علوم الحاسوب والفيزياء وعلوم المواد، بهدف الحفاظ على ريادة الشركة في عالم التكنولوجيا المتغير. وقد أثمر هذا الاستثمار عن سلسلة من الاختراعات التي شكلت مستقبل الحوسبة.
عصر الحوسبة الشخصية وبدايات زيروكس بارك
في ستينيات القرن الماضي، وضع دوغلاس إنغلبارت، الباحث في معهد ستانفورد للأبحاث، اللبنات الأولى للتفاعل بين الإنسان والحاسوب من خلال اختراعه أول فأرة حاسوب وتطويره لمفهوم واجهة المستخدم الرسومية. ومع ذلك، ظلت هذه التقنيات حبيسة الجانب البحثي ولم تتحول إلى منتجات تجارية متاحة للعامة في ذلك الوقت.
استلهم “زيروكس بارك” من هذه الأبحاث الرائدة، وقام بتطوير أول واجهة مستخدم رسومية عملية لجهاز الحاسوب الشخصي “زيروكس ألتو” (Xerox Alto) في أوائل السبعينيات. قبل ذلك، كانت الحواسيب عبارة عن أجهزة ضخمة ومعقدة تتطلب معرفة متخصصة بأوامر نصية للتشغيل. “زيروكس ألتو” قدم طريقة أكثر سهولة وبديهية للتفاعل مع الحواسيب، مما فتح الباب أمام انتشارها على نطاق أوسع.
على الرغم من هذه الإنجازات، لم تستثمر شركة “زيروكس” بشكل كامل في تسويق وتطوير هذه التقنيات. وهذا أتاح الفرصة لشركات أخرى، وعلى رأسها “آبل”، للاستفادة من هذه الابتكارات وتحويلها إلى منتجات ناجحة تجاريًا.
رؤية مستقبلية وتحديات التسويق
سيطرت “زيروكس” على سوق آلات النسخ منذ عام 1959، وحققت أرباحًا كبيرة من خلال براءات الاختراع الخاصة بها. ولكن مع انتهاء صلاحية هذه البراءات في أواخر الستينيات، بدأت الشركة تواجه منافسة متزايدة من شركات يابانية ناشئة تقدم آلات نسخ أرخص وأكثر كفاءة.
في هذا السياق، رأت “زيروكس” في صناعة الحوسبة الناشئة فرصة لتنويع أعمالها والحفاظ على ريادتها. وقد اقترح جاك غولدمان، كبير العلماء في الشركة، إنشاء مختبر أبحاث مخصص لاستكشاف هذه الفرصة، مما أدى إلى تأسيس “زيروكس بارك”.
تأثير زيروكس بارك على التكنولوجيا الحديثة
لم يقتصر عمل “زيروكس بارك” على تطوير واجهة المستخدم الرسومية والفأرة. فقد قام المختبر أيضًا بابتكار تقنيات أخرى مهمة، مثل طابعات الليزر وشبكات الحاسوب المحلية والرسومات النقطية الحاسوبية والبرمجة الكائنية التوجه والورق الإلكتروني.
كانت زيارة ستيف جوبز، مؤسس شركة “آبل”، إلى “زيروكس بارك” في عام 1979 لحظة محورية في تاريخ التكنولوجيا. فقد أدرك جوبز الإمكانات الهائلة لواجهة المستخدم الرسومية وقرر دمجها في أجهزة “آبل” المستقبلية.
وقد أدت هذه الزيارة إلى تطوير جهاز “ماكنتوش” (Macintosh) الذي أطلق عام 1984، والذي يعتبر أول حاسوب شخصي ناجح تجاريًا يعتمد على واجهة المستخدم الرسومية. وقد ألهم “ماكنتوش” شركات أخرى لتطوير أنظمة تشغيل مماثلة، مما أدى إلى انتشار الحوسبة الشخصية على نطاق واسع.
على الرغم من أن “زيروكس بارك” لم يحقق النجاح التجاري المباشر الذي حققته “آبل”، إلا أنه لعب دورًا حاسمًا في تطوير التكنولوجيا الحديثة. فقد قدم العديد من الابتكارات التي أصبحت معايير صناعية، وساهم في تحويل الحوسبة من أداة متخصصة إلى منتج استهلاكي واسع الانتشار.
في عام 2002، تحول “زيروكس بارك” إلى كيان مستقل، وفي عام 2023، تبرعت “زيروكس” بالمختبر إلى “معهد ستانفورد للأبحاث”.
من المتوقع أن يستمر “معهد ستانفورد للأبحاث” في دعم الأبحاث والتطوير في “زيروكس بارك”، مع التركيز على المجالات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي والواقع الافتراضي والواقع المعزز. ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح كيف ستؤثر هذه التغييرات على مستقبل المختبر وقدرته على الابتكار. من المهم متابعة التطورات في “زيروكس بارك” لمعرفة ما إذا كان سيتمكن من استعادة مكانته كمركز رائد للابتكار التكنولوجي.












