تشير إعلانات الوظائف الأخيرة في عدد من المؤسسات العربية إلى توجه ملحوظ، حيث تُشترط إجادة اللغة الإنجليزية كلغة أساسية للتقديم على وظائف تتطلب في الوقت نفسه إتقان اللغة العربية. هذا الأمر يثير تساؤلات حول مكانة اللغة العربية في ظل العولمة وتزايد أهمية اللغات الأخرى، خاصةً في سوق العمل. ويُعدّ هذا التوجه مؤشرًا على ظاهرة “وارثي اللغة” العربية المتزايدة.
تزايد أهمية اللغة الإنجليزية وتأثيرها على اللغة العربية
لا يقتصر الأمر على إعلانات الوظائف، بل يمتد ليشمل قطاع التعليم أيضًا. فالملاحظة الدقيقة تكشف عن أن إتقان اللغة الإنجليزية أصبح ميزة تنافسية، وفي بعض الأحيان شرطًا أساسيًا، حتى في الوظائف التي يفترض أن تكون اللغة العربية هي اللغة المهنية الأساسية فيها. وفقًا لخبراء في مجال اللغة العربية، يعود هذا إلى عدة عوامل، منها سهولة الوصول إلى المعلومات والمصادر العلمية باللغة الإنجليزية، وتزايد الشركات والمؤسسات التي تعتمد عليها كلغة عمل رئيسية.
ومع ذلك، فإن هذا التوجه يثير قلقًا بشأن مستقبل اللغة العربية، خاصةً لدى الأجيال الشابة. فمن المعلوم أن اللغة ليست مجرد وسيلة للتواصل، بل هي أيضًا جزء أساسي من الهوية الثقافية والتاريخية. ويؤكد اللغويون أن إهمال اللغة العربية قد يؤدي إلى فقدان جزء كبير من التراث الثقافي العربي.
ظاهرة “وارثي اللغة” العربية
يشير مصطلح “وارثي اللغة” العربية إلى الطلاب العرب أو المنحدرين من أصول عربية الذين يفتقرون إلى القدرة على القراءة والكتابة باللغة العربية بشكل سليم. ويرجع ذلك إلى عدة أسباب، منها نشأتهم وتعليمهم في مدارس أجنبية أو دولية، أو قلة تعرضهم للغة العربية في البيئة المحيطة بهم. ويؤكد الدكتور يحيى عبدالمبدي محمد، أستاذ اللغة العربية بجامعة جورجتاون في قطر، أن هذه الظاهرة تتطلب اهتمامًا خاصًا.
فقد أوضح الدكتور محمد أن “وارثي اللغة” يواجهون صعوبة في فهم النصوص العربية، والتعبير عن أفكارهم بوضوح، والمشاركة الفعالة في الحياة الثقافية والاجتماعية العربية. وهذا بدوره يؤثر على هويتهم وانتماءهم إلى الثقافة العربية.
التحديات والحلول المقترحة
تتفاقم هذه المشكلة بسبب عوامل متعددة، بما في ذلك الهجرة المتزايدة للعائلات العربية إلى الخارج، وتفضيل العديد من الآباء لإلحاق أبنائهم بالمدارس الدولية التي تعتمد على اللغة الإنجليزية كلغة تدريس رئيسية. بالإضافة إلى ذلك، فإن ضعف الدعم الحكومي للتعليم العربي في الخارج، ونقص الموارد التعليمية المناسبة، يساهمان في تفاقم هذه المشكلة.
ولمواجهة هذه التحديات، يقترح الخبراء مجموعة من الحلول، منها: تعزيز التعليم العربي في الخارج، وتوفير برامج تعليمية مكثفة للطلاب العرب الذين يعانون من ضعف في اللغة العربية، وتشجيع استخدام اللغة العربية في الحياة اليومية، وخاصةً في وسائل الإعلام والإنترنت. كما يؤكدون على أهمية ربط الأجيال الشابة بتراثهم الثقافي العربي، وتعزيز الحس الوطني والانتماء إلى الوطن.
تشير دراسة أجرتها الباحثة “Bahar Otcu-Grillman” عام 2010 حول مدارس الجاليات التركية في أمريكا إلى أن الحفاظ على اللغة الأم يتطلب إيمانًا راسخًا باستمراريتها، وتشجيعًا دائمًا على استخدامها، ودمجًا للمحتوى الثقافي واللغوي في المناهج الدراسية. وتؤكد الدراسة على أهمية توفير بيئة تعليمية محفزة تشجع الطلاب على التعبير عن أنفسهم باللغة الأم، وتعزز هويتهم الثقافية.
بالإضافة إلى ذلك، يرى البعض أن تغيير النظرة المجتمالية للغة العربية، والتركيز على جمالياتها وقيمتها الثقافية، يمكن أن يلعب دورًا هامًا في تشجيع الأجيال الشابة على تعلمها واستخدامها. فاللغة العربية ليست مجرد لغة للتواصل، بل هي أيضًا لغة الأدب والشعر والفن، وهي جزء لا يتجزأ من الحضارة العربية والإسلامية.
مستقبل اللغة العربية في ظل العولمة
من المتوقع أن يستمر التحدي الذي تواجهه اللغة العربية في ظل العولمة وتزايد أهمية اللغات الأخرى. ومع ذلك، فإن هناك أيضًا فرصًا كبيرة لتعزيز مكانة اللغة العربية، خاصةً من خلال الاستثمار في التعليم والبحث العلمي، وتشجيع الإبداع والابتكار في مجال اللغة العربية.
وتشير التقديرات إلى أن عدد المتحدثين باللغة العربية في جميع أنحاء العالم يتجاوز 400 مليون شخص، مما يجعلها واحدة من أكثر اللغات انتشارًا في العالم. بالإضافة إلى ذلك، فإن اللغة العربية هي اللغة الرسمية للعديد من الدول العربية، وهي لغة مقدسة للمسلمين في جميع أنحاء العالم.
وفي الختام، فإن مستقبل اللغة العربية يعتمد على الجهود المشتركة التي تبذلها الحكومات والمؤسسات التعليمية والمجتمع المدني، وعلى وعي الأجيال الشابة بأهمية لغتهم وهويتهم الثقافية. ومن المتوقع أن تشهد السنوات القادمة المزيد من النقاشات والجهود الرامية إلى الحفاظ على اللغة العربية وتعزيز مكانتها في عالم متغير.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.













