في أعماق المحيط الهادئ، على بعد آلاف الأمتار تحت سطح الماء، بدأت قصة اكتشاف بيولوجي مذهلة بالتزامن مع اختبار تقنيات استخراج المعادن من قاع البحر. أظهرت دراسة حديثة، نُشرت في دورية “نيتشر إيكولوجي آند إيفوليوشن”، تنوعًا حيويًا غير متوقع في منطقة كلاريون كليبرتون، مع التركيز على تأثير عمليات استخراج “العُقَد متعددة المعادن” على هذا النظام البيئي الهش. هذه الدراسة تلقي الضوء على أهمية فهم التنوع البيولوجي في أعماق البحار قبل الشروع في أي عمليات تعدين واسعة النطاق.
تقع منطقة كلاريون كليبرتون بين هاواي والمكسيك، وهي منطقة غنية بالمعادن الضرورية لإنتاج البطاريات وتقنيات الطاقة المتجددة. أجرى باحثون مسحًا شاملاً للحياة القاعية في المنطقة، بالتوازي مع اختبار آلات جمع العُقَد المعدنية، بهدف تقييم الأثر البيئي المحتمل لهذه العمليات. وقد كشفت النتائج عن وجود مجتمع حيوي معقد وغير مستكشف إلى حد كبير.
تنوع الحياة في أعماق البحار واكتشاف “العنكبوت البحري”
أظهرت الدراسة أن المنطقة ليست صحراء مائية كما كان يُعتقد سابقًا، بل موطن لمجموعة متنوعة من الكائنات الحية. تم تحديد 4350 فردًا من 788 نوعًا مختلفًا، العديد منها لم يكن معروفًا من قبل أو مسجلاً علميًا. من بين هذه الكائنات المدهشة، اكتشف الباحثون نوعًا من “العنكبوت البحري”، وهو كائن ينتمي إلى مجموعة قريبة من العناكب البرية، ولكنه يختلف عنها تصنيفيًا.
تتراوح أحجام هذه الكائنات بشكل كبير، فبينما يمكن أن يصل حجم بعض أنواع العناكب البحرية في القطب الجنوبي إلى حجم كف اليد، فإن الأنواع التي تم اكتشافها في هذه الدراسة أصغر بكثير، مما يوضح التنوع المذهل الذي يمكن أن نجده في أعماق البحار.
تأثير التعدين على التنوع البيولوجي
بالإضافة إلى اكتشاف أنواع جديدة، ركزت الدراسة على تقييم تأثير عمليات التعدين على البيئة القاعية. أظهرت النتائج أن عمليات جمع العُقَد المعدنية أدت إلى انخفاض في كثافة الكائنات الحية بنسبة 37%، وانخفاض في عدد الأنواع بنسبة 32% في المناطق التي تم فيها إجراء الاختبارات. هذه النتائج تشير إلى أن التعدين يمكن أن يكون له تأثير سلبي كبير على التنوع البيولوجي في أعماق البحار.
ومع ذلك، أشار الباحثون إلى أن المجتمع القاعي ليس ثابتًا، بل يشهد تقلبات طبيعية بسبب التغيرات في كمية الغذاء الهابط من الأعلى. هذا يعني أن تقييم الأثر البيئي للتعدين يجب أن يأخذ في الاعتبار هذه التقلبات الطبيعية.
العقَد متعددة المعادن وأهميتها
تعتبر “العُقَد متعددة المعادن” مصدرًا واعدًا للمعادن الأساسية مثل المنغنيز والنيكل والكوبالت والنحاس، وهي معادن ضرورية لإنتاج البطاريات وتقنيات الطاقة المتجددة. مع تزايد الطلب على هذه المعادن، يزداد الاهتمام باستكشاف واستغلال موارد أعماق البحار. لكن هذا الاستغلال يجب أن يتم بحذر شديد لضمان حماية البيئة البحرية.
أكدت الدراسة على أن عمليات التعدين في أعماق البحار تثير غبارًا طينيًا يمكن أن ينتشر بعيدًا عن موقع التعدين، مما قد يؤثر على الكائنات الحية في مناطق أوسع. هذا الغبار يمكن أن يعيق تغذية الكائنات القاعية ويؤثر على وظائفها البيولوجية.
وفقًا للباحثين، فإن هذه الدراسة تسلط الضوء على الحاجة الملحة إلى إجراء المزيد من البحوث لفهم التنوع البيولوجي في أعماق البحار بشكل أفضل، وتقييم المخاطر البيئية المحتملة لعمليات التعدين. يجب أن يتم تطوير وتنفيذ لوائح صارمة لضمان أن أي عمليات تعدين مستقبلية تتم بطريقة مسؤولة ومستدامة.
من المتوقع أن يناقش الهيئة الدولية لقاع البحار (ISA) نتائج هذه الدراسة وغيرها من الدراسات ذات الصلة في اجتماعاتها القادمة، بهدف وضع إطار تنظيمي شامل لتعدين أعماق البحار. من المقرر أن يتم اتخاذ قرار بشأن القواعد واللوائح الخاصة بالتعدين بحلول عام 2025، وهو ما سيحدد مستقبل استغلال موارد أعماق البحار. يبقى السؤال مفتوحًا حول كيفية الموازنة بين الحاجة إلى المعادن وأهمية حماية البيئة البحرية الهشة.













