مدريد – يشهد الاهتمام بتعلم اللغة العربية في إسبانيا، خاصة بين الشباب، ارتفاعاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، مدفوعاً بعوامل ثقافية وسياسية واجتماعية متنوعة. لم تعد الرحلات السياحية أو التجارب الشخصية الدافع الوحيد لتعلم اللغة، بل أصبح لها أبعاد تتعلق بالدراسات الأكاديمية، والوظائف المستقبلية، والرغبة في فهم أعمق للعالم العربي وثقافته الغنية، بالإضافة إلى تزايد الوعي بأهميتها في سياق الأحداث الدولية.
وتظهر هذه الزيادة في الإقبال على تعلم اللغة العربية من خلال ارتفاع عدد المشاركين في الدورات التدريبية التي تقدمها مؤسسات متخصصة مثل “البيت العربي” في إسبانيا، والتي تقدم برامج مكثفة للراغبين في إتقان مهارات المحادثة والتواصل باللغة العربية، بدلاً من التركيز على الجوانب النظرية والأكاديمية التقليدية.
إقبال متزايد على تعلم اللغة العربية في إسبانيا
أكدت سعيدة شرميتي، مديرة مركز اللغة العربية في “البيت العربي”، تسجيل رقم قياسي في عدد المشاركين في برامج تعلم اللغة هذا العام، حيث بلغ 546 مشاركاً، وهو أعلى رقم منذ تأسيس البرنامج في عام 2008. ويعكس هذا الرقم الاهتمام المتزايد باللغة العربية بين الشباب الإسباني، بالإضافة إلى الأطفال من جنسيات مختلفة.
وترى شرميتي أن هذا الإقبال نابع من رغبة الطلاب في بناء جسور التواصل مع الناطقين باللغة العربية، وفهم ثقافاتهم المتنوعة، واكتساب مهارات لغوية تُمكنهم من التفاعل بفعالية في مختلف المجالات. بالإضافة إلى ذلك، يلعب الجانب المهني دوراً هاماً في هذا التوجه، حيث يتطلع العديد من الشباب الإسباني إلى تحسين فرصهم الوظيفية في الدول العربية.
أسباب الإقبال على تعلم اللغة العربية
يتجاوز الاهتمام بتعلم اللغة العربية مجرد الرغبة في التواصل. فقد أشارت خارا مونتير، إحدى الطالبات في “البيت العربي”، إلى أن مشاركتها في مؤتمر حول السلام في اليمن، والاستماع إلى مشاركات النساء اليمنيات، دفعها إلى تعلم اللغة العربية بهدف فهمهن بشكل مباشر، دون الحاجة إلى الاعتماد على الترجمة. وهذا يعكس وعياً بأهمية اللغة في فهم السياقات السياسية والاجتماعية والثقافية.
ويعزز هذا التوجه، بحسب مونتير، الاهتمام المتزايد بالقضايا الدولية، خاصة في ظل الأحداث الجارية في فلسطين، والتي ساهمت في تسليط الضوء على أهمية فهم اللغة العربية لفهم وجهات النظر المختلفة والتعامل مع التحديات الإقليمية.
وترى أندريا نورييغا، وهي طالبة في الدراسات العربية والإسلامية بجامعة إشبيلية، أن رحلتها السياحية إلى المغرب كانت نقطة تحول في قرارها بالتخصص في هذا المجال. وقد ساهمت تجربة التفاعل مع الثقافة العربية والإسلامية، سواء في المغرب أو في الأندلس، في إثراء فهمها للعالم العربي وتقدير تنوعه الثقافي واللغوي.
تحديات تواجه تعليم اللغة العربية
على الرغم من الإقبال المتزايد، إلا أن تعليم اللغة العربية في إسبانيا يواجه بعض التحديات. أبرز هذه التحديات هو نقص المعلمين المتخصصين القادرين على تدريس اللغة العربية كلغة أجنبية، بالإضافة إلى قلة المناهج الدراسية الموحدة والإطار المرجعي الذي ينظم عملية التعليم. هذا النقص يحد من جودة التعليم ويجعل من الصعب تحقيق الأهداف المرجوة.
ويرى الدكتور سلفادور بينيا، الأستاذ الأكاديمي في قسم الترجمة والدراسات الشرقية بجامعة مدريد المستقلة، أن هناك حاجة إلى تسليط الضوء على جهود تعليم اللغة العربية في إسبانيا من قبل وسائل الإعلام، والتي غالباً ما تتجاهل الإنجازات الأدبية والترجمية، مما يؤثر على مستوى اهتمام الجمهور باللغة وثقافتها.
إضافة إلى ذلك، يشير الدكتور بينيا إلى أن تنوع اللهجات العربية يمثل عائقاً كبيراً أمام تعلم اللغة، ويقول “أشعر أنني ما زلت مبتدئاً في تعلم اللغة، وربما لهذا السبب”. ويدعو إلى تطوير أساليب تدريسية تأخذ في الاعتبار هذا التنوع وتُمكن الطلاب من فهم والتواصل مع مختلف اللهجات العربية.
الخطاب المعارض والدعم المؤسسي
علاوة على ذلك، يشير الباحث إغناثيو غوتيريث دي تيران إلى أن تصاعد الخطاب اليميني في إسبانيا، والذي يتبنى مواقف سلبية تجاه اللغة العربية والثقافة الإسلامية، قد ساهم في تشويه سمعة اللغة وتقليل عدد المهتمين بها. وقد أدى هذا الخطاب إلى إلغاء بعض برامج تعليم اللغة العربية في المدارس الإقليمية.
ويؤكد دي تيران على أهمية الدعم المؤسسي لتعليم اللغة العربية، مشيراً إلى أن العديد من البلدان العربية لا تقدم الدعم الكافي للمؤسسات التعليمية في إسبانيا التي تُعلم لغتها وثقافتها، على عكس ما تفعله بعض الدول الأخرى التي تحظى بدعم حكومي قوي لتعزيز لغتها وثقافتها في الخارج.
في الختام، يشهد الاهتمام بتعلم اللغة العربية في إسبانيا نمواً مطرداً، ولكن هذا النمو يواجه تحديات متعددة تتطلب جهوداً مشتركة من المؤسسات التعليمية والحكومات المعنية والجهات الداعمة. من المتوقع أن تشهد الأشهر القادمة مناقشات حول مراجعة السياسات التعليمية المتعلقة بتدريس اللغات الأجنبية، بما في ذلك اللغة العربية، بهدف تعزيز جودتها وتوسيع نطاقها. ويبقى مستقبل تعليم اللغة العربية في إسبانيا رهنًا بالتغلب على هذه التحديات والاستفادة من الفرص المتاحة.













