كشف تحقيق استقصائي حديث عن مصير العديد من كبار المسؤولين في النظام السوري السابق، الذين فرضت عليهم عقوبات دولية أو صدرت بحقهم مذكرات توقيف، وذلك بعد سنوات من اندلاع الأزمة السورية. وأظهر التحقيق أن غالبية هؤلاء المسؤولين لم يواجهوا أي مساءلة قانونية، مستفيدين من ثروات جمعوها خلال فترة حكمهم، أو من حماية دول تستضيفهم، أو من غياب إرادة سياسية دولية جادة لمحاسبتهم. هذا الواقع يثير تساؤلات حول العدالة للضحايا ومستقبل المسؤولين السوريين السابقين.
ركز التحقيق على تتبع مصير 55 من كبار قادة النظام السابق، حيث تمكن فريق البحث من تحديد أماكن إقامة حوالي نصفهم. اللافت في الأمر هو أن حالة واحدة فقط تم تأكيد احتجازها، بينما اختفى آخرون أو أصبح تتبعهم صعبًا للغاية. ويشير هذا إلى وجود فجوة كبيرة بين الجرائم المنسوبة إليهم وبين تطبيق القانون.
منفى “خمس نجوم” للقيادات السورية
أظهر التحقيق أن بعض المسؤولين السوريين السابقين يعيشون حياة باذخة في روسيا، تحديدًا في موسكو. فقد استأجرت بعض الشخصيات شققًا فخمة في فندق فور سيزنز، تصل تكلفتها الأسبوعية إلى 13 ألف دولار، لتكون نقطة انطلاق لحياة جديدة. وذكرت مصادر مقربة من النظام أن ماهر الأسد، شقيق الرئيس بشار الأسد وقائد الفرقة الرابعة، شوهد في النادي الرياضي بالفندق.
بالإضافة إلى ذلك، أشارت تقارير إلى إقامة حفلات أعياد ميلاد فاخرة لبنات الأخوين الأسد في فيلا بموسكو وعلى متن يخت في دبي. ويعيش علي مملوك، الرئيس السابق لجهاز أمني بارز، في شقة بموسكو على نفقة الدولة الروسية، مع التزامه بعدم الظهور العلني أو استقبال الزوار. كما شوهد جمال يونس، المتهم بإصدار أوامر بإطلاق النار على متظاهرين، وهو يقود دراجة كهربائية بالقرب من الملعب الوطني الروسي.
وفي رد مطول، نفى كفاح ملحم، أحد المسؤولين السابقين، ارتكاب أي جرائم ضد الإنسانية، معتبرًا أن الانتهاكات المنسوبة للنظام السابق لا تضاهى ما يرتكبه قادة سوريا الجدد. وأضاف أنه يعيش في روسيا كمواطن عادي. هذا التصريح يمثل محاولة لتبرير وضعه الحالي وتجنب المساءلة.
الإمارات ولبنان كوجهات بديلة
لم تقتصر وجهة المسؤولين السوريين السابقين على روسيا فقط. فقد انتقل عدد منهم إلى دول أخرى، مثل الإمارات العربية المتحدة ولبنان، في مسارات أقل علنية. في الإمارات، خضع هؤلاء المسؤولون لشروط صارمة تضمنت الامتناع عن الظهور الإعلامي أو الإدلاء بتصريحات سياسية، وذلك مقابل السماح لهم بإعادة ترتيب أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية.
وذكرت التقارير أن محمد الرحمون، وزير الداخلية السابق، يقيم في الإمارات، بينما يمارس أفراد من عائلته نشاطات تجارية فاخرة في دبي. كما يقيم في الإمارات رجال أعمال مرتبطون بثروة عائلة الأسد، ويترددون على المطاعم والمقاهي الراقية. أما في لبنان، فقد استقر عدد من الفارين مستفيدين من القرب الجغرافي وتشابك المصالح السياسية والاقتصادية، مع الحفاظ على مستوى من السرية والابتعاد عن الأنشطة العلنية.
الوضع المتباين للضباط المنشقين
في المقابل، لم يحظ مئات الضباط الذين غادروا سوريا بنفس المعاملة. فوفقًا لتقارير، تسابق أكثر من 1200 ضابط للوصول إلى روسيا، ودفع البعض منهم رشاوى لضمان مقعد على متن طائرات الشحن. وعند وصولهم، تم إيواءهم في مساكن عسكرية قديمة تعود إلى الحقبة السوفياتية، حيث اضطروا للعيش في غرف مشتركة والتكيف مع ظروف معيشية صعبة.
بعد فترة وجيزة، خُيّر هؤلاء الضباط بين العيش بحرية على نفقتهم الخاصة أو البقاء في روسيا مقابل الحصول على إعانات الدولة وتوزيعهم في مناطق مختلفة، بما في ذلك المناطق النائية مثل سيبيريا. هذا التمييز في المعاملة يثير تساؤلات حول معايير العدالة والمساءلة.
تعتبر قضية المسؤولين السوريين السابقين المرتبطين بجرائم حرب والانتهاكات الحقوقية قضية معقدة تتداخل فيها الاعتبارات السياسية والقانونية. وتشير التقارير إلى أن حكومات أجنبية قد تتردد في تسليم هؤلاء المسؤولين أو تفضل الاحتفاظ بهم كمصادر استخباراتية، مما يعيق جهود تحقيق العدالة.
حتى الآن، لم يتم تأكيد احتجاز سوى شخص واحد من بين 55 خضعوا للتحقيق، وهو طاهر خليل، الرئيس السابق لمديرية المدفعية والصواريخ، والذي يُتهم بالإشراف على استخدام الأسلحة الكيميائية. وقد ألقي القبض عليه في سوريا في فبراير الماضي، لكن لم يصدر أي إعلان رسمي من الحكومة السورية الجديدة. هذا الواقع يترك ضحايا عقود من حكم عائلة الأسد أمام أسئلة مفتوحة حول مستقبل المساءلة.
من المتوقع أن تستمر الجهود الدولية لجمع الأدلة وتحديد المسؤولين عن الانتهاكات في سوريا. ومع ذلك، يبقى مستقبل هؤلاء المسؤولين غير واضح، حيث تعتمد إمكانية محاكمتهم على التطورات السياسية والإرادة الدولية. يجب مراقبة ردود فعل الحكومات المعنية، وخاصة روسيا والإمارات ولبنان، لمعرفة ما إذا كانت ستتخذ خطوات ملموسة نحو تحقيق العدالة.













