يشهد المشهد الثقافي والفني تحولاً ملحوظاً في طريقة استهلاك المحتوى، مدفوعاً بتسارع وتيرة الحياة الرقمية وتفضيل المقاطع القصيرة. هذا التغيير يثير تساؤلات حول تأثيره على الذوق العام وقدرة الأعمال الفنية على ترك أثر عميق في نفوس المتلقين. وتظهر دراسات حديثة أن هذا التحول قد يؤدي إلى تشتت الانتباه وتقليل القدرة على التفاعل مع الأعمال الفنية التي تتطلب تركيزاً وتأملاً.
وتشير التقارير إلى أن هذا الاتجاه ليس محصوراً في مجال معين، بل يمتد ليشمل الأدب والموسيقى والفنون البصرية، مما يعكس تغيراً أوسع في أنماط الاستهلاك الثقافي. وقد لفت خبراء الأنثروبولوجيا إلى أن هذا التحول يتماشى مع مفهوم “الحداثة السائلة” الذي طرحه عالم الاجتماع زيغمونت باومان، والذي يصف فيه حالة عدم الاستقرار والسيولة التي تميز العصر الحديث.
تأثير وسائل الإعلام الرقمية على الذوق العام
أظهرت دراسة حديثة أجرتها الجمعية الأمريكية لعلم النفس أن التعرض المستمر لمقاطع الفيديو القصيرة يؤدي إلى إجهاد مناطق الانتباه في الدماغ، مما يقلل من قدرة المتلقي على الاستمتاع بالتجارب الجمالية المعقدة. ووفقاً للدراسة، فإن هذا الإجهاد يجعل الدماغ يفضل المحتوى السريع والمباشر، على حساب المحتوى الذي يتطلب وقتاً وجهداً لفهمه وتقديره.
بالإضافة إلى ذلك، ساهمت منصات التواصل الاجتماعي في تعزيز هذا الاتجاه من خلال خوارزمياتها التي تعطي الأولوية للمحتوى الأكثر تفاعلاً، والذي غالباً ما يكون قصيراً وجذاباً بصرياً. هذا أدى إلى ظهور ما يسمى بـ “اقتصاد الانتباه”، حيث تتنافس الشركات والمؤسسات على جذب انتباه المستخدمين لفترة أطول.
تحديات تواجه الفنانين والمبدعين
يواجه الفنانون والمبدعون تحديات جديدة في ظل هذا التحول في الذوق العام. فمن ناحية، عليهم أن يتكيفوا مع متطلبات السوق الرقمية وأن ينتجوا محتوى يجذب انتباه الجمهور في عالم مليء بالمشتتات. ومن ناحية أخرى، عليهم أن يحافظوا على جودة أعمالهم الفنية وأن لا يساوموا على قيمهم الإبداعية.
وقد لاحظ بعض الروائيين السعوديين تدخل دور النشر في تعديل أعمالهم الأدبية، مثل اختيار العناوين أو تغيير مسار السرد، بهدف زيادة جاذبيتها التجارية. ويعكس هذا التدخل الضغوط التي يواجهها الناشرون في ظل المنافسة الشديدة في سوق الكتاب.
تغير أنماط الاستهلاك الثقافي
لا يقتصر تأثير هذا التحول على الأعمال الفنية الجديدة، بل يمتد ليشمل أيضاً الأعمال الفنية القديمة. ففي الماضي، كان الناس يخصصون وقتاً طويلاً لقراءة الكتب أو مشاهدة الأفلام أو الاستماع إلى الموسيقى. أما اليوم، فإنهم يفضلون استهلاك هذه الأعمال الفنية على شكل مقاطع قصيرة أو مراجعات سريعة.
وقد أدى هذا التغيير في أنماط الاستهلاك الثقافي إلى تراجع الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة والتحليلات العميقة، وإلى تفضيل الأحكام المسبقة والانطباعات السطحية. وهذا يشكل خطراً على التراث الثقافي وعلى قدرة الأجيال القادمة على فهم وتقدير الأعمال الفنية الكلاسيكية.
ومع ذلك، يرى بعض المحللين أن هذا التحول قد يخلق أيضاً فرصاً جديدة للفنانين والمبدعين. فمن خلال استخدام وسائل الإعلام الرقمية بشكل فعال، يمكنهم الوصول إلى جمهور أوسع وبناء علاقات مباشرة مع معجبيهم. بالإضافة إلى ذلك، يمكنهم تجربة أشكال جديدة من التعبير الفني والاستفادة من التقنيات الحديثة لإنشاء أعمال فنية مبتكرة.
تتزايد الأدلة على أن هذا التحول في الذوق العام مرتبط أيضاً بتغيرات في علم النفس الإنساني، حيث يميل الدماغ إلى البحث عن المكافآت الفورية وتجنب الجهد العقلي. وهذا يفسر لماذا يفضل الناس مشاهدة مقاطع الفيديو القصيرة على قراءة الكتب الطويلة، أو الاستماع إلى الموسيقى البوب على الموسيقى الكلاسيكية.
وتشير التوقعات إلى أن هذا الاتجاه سيستمر في المستقبل المنظور، مع استمرار تطور التكنولوجيا الرقمية وزيادة سرعة الحياة. ومن المتوقع أن تشهد دور النشر والمؤسسات الفنية مزيداً من الضغوط للتكيف مع هذه التغيرات، وأن تبحث عن طرق جديدة لجذب انتباه الجمهور والحفاظ على جودة أعمالها الفنية. من المرجح أن نرى المزيد من التجارب في مجال الإنتاج الفني، مثل استخدام الذكاء الاصطناعي لإنشاء محتوى مخصص لكل مستخدم، أو تطوير أشكال جديدة من التفاعل مع الجمهور.
في الختام، يمثل التحول في الذوق العام تحدياً وفرصة في الوقت ذاته. ويتطلب الأمر من الفنانين والمبدعين والمؤسسات الفنية أن يكونوا أكثر وعياً بالتغيرات التي تحدث في المجتمع، وأن يتكيفوا معها بشكل إبداعي ومسؤول. من الضروري مراقبة تطورات هذا المشهد، خاصةً فيما يتعلق بسياسات دعم الفنون والثقافة، والجهود المبذولة لتعزيز الوعي بأهمية التراث الثقافي.













