لا يزال سرطان المعدة أحد التحديات الصحية الكبرى في منطقة شرق آسيا، بما في ذلك كوريا الجنوبية، حيث يمثل عبئًا كبيرًا على الأنظمة الصحية. ورغم شيوعه، إلا أنه يحظى باهتمام بحثي أقل مقارنة بأنواع أخرى من السرطان، مثل سرطان القولون والمستقيم، مما يعيق التقدم في فهم آلياته وتطوير علاجات فعالة. هذا النقص في الأبحاث الموجهة يحد من قدرة العلماء على معالجة هذا المرض بشكل مثالي.
أظهرت دراسة حديثة، أجراها فريق بحثي دولي بقيادة علماء من معهد العلوم الأساسية في كوريا الجنوبية، بالتعاون مع مؤسسات ألمانية، اكتشافًا جديدًا حول كيفية بدء سرطان المعدة في مراحله المبكرة. تسلط هذه النتائج الضوء على آلية لم تكن معروفة من قبل، مما يوفر إطارًا جديدًا لفهم تطور المرض ويفتح الباب أمام استهداف علاجي محتمل.
فهم بيولوجيا سرطان المعدة: تحديات وفرص
تكمن إحدى الصعوبات الرئيسية في دراسة سرطان المعدة في أن العديد من النماذج الحالية تعتمد على افتراضات مستمدة من أبحاث سرطان القولون والمستقيم. ومع ذلك، فإن البيولوجيا الجزيئية والمسارات المتورطة في تطور هذه السرطانات تختلف بشكل كبير، مما يجعل تطبيق النتائج من دراسات القولون والمستقيم على سرطان المعدة أمرًا صعبًا. هذا الاختلاف يتطلب نهجًا بحثيًا مخصصًا.
لطالما تساءل الباحثون عن الخطوات الأولية التي تؤدي إلى تطور سرطان المعدة، وكيف تتمكن الخلايا السرطانية في مراحلها المبكرة من البقاء والنمو على الرغم من الإشارات الطبيعية التي تنظم نمو الخلايا. في الظروف الطبيعية، تعتمد خلايا المعدة على إشارات من البيئة المحيطة بها لتحديد متى تنقسم ومتى تتوقف عن النمو، ومتى تموت. فقدان هذا الاعتماد هو سمة مميزة للسرطان.
آلية جديدة للاكتفاء الذاتي للخلايا السرطانية
ركزت الدراسة الجديدة على فهم كيفية تحول خلايا المعدة الطبيعية إلى خلايا سرطانية قادرة على النمو بشكل مستقل. اكتشف الفريق البحثي أن خلايا سرطان المعدة في مراحلها المبكرة تتغلب على هذا التحدي من خلال إنتاج إشارات “دبليو إن تي” (WNT) بنفسها، بدلاً من الاعتماد على الإشارات الخارجية من الأنسجة المحيطة. هذا التحول يسمح للخلايا السرطانية بتجاوز الضوابط الطبيعية للنمو.
الأمر المثير للاهتمام هو أن هذا التحول لا يحدث بشكل عشوائي. أظهرت الدراسة أن تنشيط مسار إشارات “مابك” (MAPK) يلعب دورًا حاسمًا في تحفيز الخلايا السرطانية لإنتاج جزيء “دبليو إن تي 7 بي” (WNT7b). هذا الجزيء، بدوره، يعزز نمو الخلايا السرطانية ويخلق حلقة تغذية راجعة ذاتية الاستدامة.
أهمية النتائج وتأثيرها على العلاج
تعتبر هذه النتائج مهمة بشكل خاص لأنها تحدد آلية جديدة لم يتم استكشافها من قبل في سياق سرطان المعدة. وفقًا للباحثين، فإن هذا الاكتشاف يمثل “تغييرًا جوهريًا” في فهم سلوك الخلايا السرطانية في المعدة. كما أن فهم هذه الآلية قد يؤدي إلى تطوير علاجات جديدة تستهدف بشكل خاص مسار “دبليو إن تي” أو مسار “مابك” في الخلايا السرطانية.
تعتبر سرطانات المعدة التي تعتمد على التنشيط الذاتي لمسار “دبليو إن تي” تحديًا علاجيًا خاصًا، حيث تفتقر حاليًا إلى علاجات فعالة وموجهة. من خلال تحديد كيفية استمرار هذه الأورام في النمو، تسلط الدراسة الضوء على نقاط ضعف محتملة يمكن استغلالها لتطوير علاجات أكثر فعالية. الوقاية من السرطان هي أيضًا جانب مهم يجب التركيز عليه.
نُشرت هذه الدراسة في مجلة “موليكولار كانسر” (Molecular Cancer)، مما يعزز مصداقيتها وأهميتها في المجتمع العلمي. وتشير التقارير إلى أن الفريق البحثي يواصل حاليًا استكشاف استراتيجيات لتعطيل برنامج الإشارات هذا بشكل انتقائي، مع الحفاظ على صحة أنسجة المعدة الطبيعية. من المتوقع أن يتم تقديم المزيد من النتائج في هذا المجال في المستقبل القريب، مما قد يؤدي إلى تحسينات كبيرة في علاج سرطان المعدة.
في الختام، يمثل هذا الاكتشاف خطوة مهمة إلى الأمام في فهمنا لبيولوجيا سرطان المعدة. ومع استمرار الأبحاث، هناك أمل في تطوير علاجات جديدة وفعالة يمكن أن تحسن بشكل كبير نتائج المرضى الذين يعانون من هذا المرض المدمر. سيراقب الباحثون عن كثب التقدم المحرز في هذا المجال، مع التركيز على تطوير علاجات تستهدف بشكل خاص مسارات الإشارات التي تم تحديدها في هذه الدراسة.













