قدّم الباحث عبدالعزيز القعيشيش دراسة أكاديمية معمقة في فن التفاوض، تتجاوز المفاهيم التقليدية التي تختزله في مجرد تقنية سياسية. يرى القعيشيش أن التفاوض هو تجسيد فلسفي للصراع الإنساني الدائم بين العقل والعاطفة، وبين المثالية والبراغماتية، وبين الأخلاق والقوة، وهو ما يجعله مجالاً يستحق البحث والتحليل المتعمق.
تستكشف الدراسة كيف أن المملكة العربية السعودية طورت نهجاً تفاوضياً فريداً، متجذراً في تاريخها وقيمها، ولكنه في الوقت ذاته قادر على التكيف مع تعقيدات الساحة الدولية. ويستعرض الباحث نماذج تاريخية ومعاصرة، مع التركيز بشكل خاص على دور الأمير بندر بن سلطان كمثال بارز على عبقرية الدبلوماسية السعودية.
التفاوض: جدلية المصالح والقيم
لا يقتصر التفاوض على مجرد تحقيق مكاسب مادية أو سياسية، بل هو عملية معقدة تعكس صراعاً بين القيم والمصالح. فمن جهة، هناك القيم المثالية كالعدالة والشفافية والالتزام الأخلاقي، ومن جهة أخرى، هناك البراغماتية التي تركز على المرونة وتحقيق الأهداف العملية. وفقاً للقعيشيش، يكمن جوهر النجاح في إيجاد توازن بين هذين الجانبين، من خلال تقديم خطاب يرتكز على القيم مع اتخاذ قرارات واقعية تضمن تحقيق النتائج المرجوة.
الأمير بندر بن سلطان.. نموذج المدرسة السعودية في التفاوض
تعتبر الدراسة الأمير بندر بن سلطان نموذجاً رائداً في فن التفاوض السعودي، حيث تمكن من الجمع بين القيم الوطنية والأخلاقية من جهة، وبين البراغماتية السياسية من جهة أخرى. وقد لعب دوراً محورياً في العديد من القضايا الإقليمية والدولية الهامة، بما في ذلك الحرب الباردة، وأزمة الخليج، واتفاق الطائف.
• وصفه قادة أمريكيون بأنه دبلوماسي يتمتع بقدرة فريدة على فهم المواقف المختلفة والتكيف معها.
• تميزت إستراتيجيته بالصبر والحكمة، والقدرة على بناء الثقة مع الأطراف المتفاوضة.
• ترك إرثاً دبلوماسياً غنياً يرتكز على القوة الناعمة، والبراغماتية السياسية، والالتزام بالمصالح الوطنية.
صلح الحديبية: مرجعية إسلامية خالدة في التفاوض
يستلهم البحث من صلح الحديبية كنموذج تاريخي أصيل لفن التفاوض، حيث يمثل هذا الاتفاق؛
• تجسيداً للمرونة الاستراتيجية وقبول التنازلات المؤقتة من أجل تحقيق أهداف أسمى.
• اعترافاً متبادلاً بأهمية الأطراف المتفاوضة، وهو ما ساهم في بناء علاقات مستدامة.
• التزاماً صارماً بالاتفاقيات، مما عزز المصداقية والثقة بين الأطراف.
• تمهيداً لفتح مكة، الذي يعتبر نصراً استراتيجياً حاسماً.
التفاوض متعدد الأطراف: منظور فلسفي
يحلل القعيشيش التفاوض متعدد الأطراف من خلال عدسة فلسفية، مستنداً إلى أفكار مفكرين كبار مثل كانط ومكيافيلي ونيتشه. فمن منظور كانط، يرتكز التفاوض على الشرعية الأخلاقية والالتزام بالمبادئ. أما من منظور مكيافيلي، فيركز التفاوض على تحقيق المصالح الوطنية من خلال التحالفات والبراغماتية. وفي المقابل، يرى نيتشه أن التفاوض هو تعبير عن إرادة القوة والسعي إلى التفوق.
وتُظهر التجربة السعودية قدرة فريدة على الموازنة بين هذه الأبعاد الفلسفية المختلفة في ملفات حساسة مثل الطاقة، والمناخ، والأمن الإقليمي. وهذا ما يؤكد على عمق وخصوصية المدرسة السعودية في التفاوض.
التفاوض في عصر الذكاء الاصطناعي: تحديات وفرص
يشير البحث إلى أن الذكاء الاصطناعي سيحدث تحولات جذرية في مجال التفاوض، من خلال توفير أدوات جديدة لتحليل البيانات، والتنبؤ بسلوك الأطراف، ومحاكاة السيناريوهات المختلفة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن استخدام العقود الذكية القائمة على تقنية البلوك تشين لضمان تنفيذ الاتفاقيات بشكل آمن وشفاف. ومع ذلك، يؤكد القعيشيش على أهمية الحفاظ على البعد الإنساني والأخلاقي في عملية التفاوض، حتى مع الاستفادة من التكنولوجيا المتقدمة.
المدرسة السعودية: أصالة ومعاصرة
تؤكد الدراسة أن المملكة العربية السعودية تقدم نموذجاً متميزاً في الموازنة بين الأصالة والمعاصرة في مجال الدبلوماسية والتفاوض. فهي تستند إلى إرث حضاري وقيمي غني، وتتكيف في الوقت ذاته مع متطلبات النظام الدولي المتغير. ومن خلال شخصيات بارزة مثل الأمير بندر بن سلطان، والأميرة ريما بندر آل سعود، والأمير خالد بن بندر بن عبدالعزيز، تواصل السعودية تطوير مدرسة دبلوماسية خاصة بها تجمع بين الثوابت والمتغيرات.
توصيات البحث
• ضرورة الاعتراف بالمدرسة السعودية في فن التفاوض كمنهج مستقل يستحق الدراسة والتحليل في المؤسسات الأكاديمية المتخصصة.
• تبني مسيرة الأمير بندر بن سلطان كحالة دراسية أكاديمية مفصلة، بهدف استخلاص الدروس والعبر المستفادة.
• توسيع نطاق المقارنات بين المدرسة السعودية ومدارس دبلوماسية عالمية أخرى، بهدف تحديد نقاط القوة والضعف لكل منها.
• إدماج البعد الفلسفي في برامج التدريب الدبلوماسي للشباب، بهدف تعزيز قدراتهم على التفكير النقدي واتخاذ القرارات الصائبة.
من المتوقع أن تثير هذه الدراسة نقاشاً أكاديمياً وسياسياً واسعاً حول فن التفاوض، وأهمية تطوير استراتيجيات دبلوماسية مبتكرة تتناسب مع تحديات العصر. ومن المرجح أن تشكل هذه الدراسة نقطة انطلاق لمزيد من البحوث والدراسات في هذا المجال الحيوي، خاصةً مع تزايد أهمية التفاوض في حل النزاعات وتعزيز التعاون الدولي.













