عاشت اليابان فترة طويلة من تاريخها منكفئة على نفسها في ظل الحكم الإمبراطوري والإقطاعي، حتى إنها في عام 1639 وبعد فترة من الانفتاح على التجار الغربيين أصدرت قانونا يُعرف باسم “ساكوكو” قررت فيه عقوبة الموت على أي شخص يدخل البلاد أو يخرج منها.
وكانت قبل هذا القرار أصدرت أمرا بطرد كل الأجانب الأوروبيين من اليابان، لا سيما التجار والمبشرين الكاثوليك الذين جاؤوا بأعداد كبيرة من إسبانيا والبرتغال منذ النصف الثاني من القرن الـ16.
وقد استمر سريان هذا القانون -الذي جعل البلاد في حالة عُزلة تامة عن العالم المحيط بها- لأكثر من 3 قرون حتى مجيء النصف الثاني من القرن الـ19، وفيها ارتقى الإمبراطور الشاب موتسوهيتو رأس السلطة في البلاد، وتلقب باسم الإمبراطور مايجي، أي المصلح أو صاحب السلطة العادل.
ورغم صغر سنّه، فقد أثار إعجاب معاصريه من المؤرخين، لأنه قاد أكبر عملية إصلاح سياسي وإداري وانفتاح للبلاد على العالم.
ثورة الإمبراطور مايجي
ففي مارس/آذار 1868، أعلن الإمبراطور مايجي عن مبادئ الإصلاح الخمسة التي نصّت على عقد تجمعات شعبية من أجل مناقشة القرارات العامة والإجراءات التي سوف تُتخذ بعد كل نقاش مجتمعي، وإقرار المساواة وتعزيز الاقتصاد الوطني، وردع التعدي والظلم من أجل الصالح العام، وتوحيد السلطتين المدنية والعسكرية بدعم من الجماهير لحماية الأمة، وأخيرا العمل لاكتساب المعرفة من جميع أقطار العالم.
تبع هذا الإعلان إصلاحات بنيوية داخل المجتمع الياباني أدت إلى نهضة شاملة أدخلت البلاد إلى مرحلة الدولة المركزية ذات السيادة المطلقة على أراضيها، والطموح التوسّعي تجاه الدول المجاورة، وفتح الباب أمام إنشاء الأحزاب السياسية.
وهكذا أدت إصلاحات الإمبراطور مايجي إلى إنشاء الدولة اليابانية الحديثة التي يقف على رأسها هذا الإمبراطور، وتعاونه مع الحكومة والأحزاب والطبقات الشعبية التي باتت تشعر بعدالة أكثر مقارنة بحقب الماضي.
أدت البعثات اليابانية التي انطلقت إلى جميع أقطار العالم -وبعضها ذهب إلى أوروبا ومصر وأميركا وغيرها- إلى تطور صناعي وعسكري وتعليمي ضخم، وبعد عقدين تقريبا من إصلاحات مايجي بدأت الجهود تؤتي ثمارها في ميدان الاقتصاد والتجارة الخارجية مع كبريات دول العالم الإمبريالية وقتئذ، مثل بريطانيا وغيرها.
ومع هذا الاستقرار السياسي والاقتصادي والتطور الصناعي والعسكري، بدأت اليابان في التحول إلى دولة كبرى إمبريالية آسيوية، لا سيما مع تنامي قدراتها العسكرية والاقتصادية، وبحلول أواخر القرن الـ19 أصبحت اليابان تُعامل القوى الأوروبية معاملة ندية، وأمست الشريك الأساسي المنافس “لبريطانيا العظمى” في شرق آسيا.
وكانت الإصلاحات التي أُدخلت على الجيش الياباني في ميدان الأفرع الرئيسية مثل القوات البرية والبحرية، وكذلك في ميدان تصنيع الأسلحة أحدثت ثورة كبرى في تطور الجيش وزيادة قوته الإقليمية والعالمية، للدرجة التي جعلت الولايات المتحدة الأميركية تكثف من تجسسها العسكري تجاهه حينذاك، وتسرع في الاستيلاء على جزيرة هاواي، وتتخذ مواضع لها في الفلبين، خوفا من هذا التقدم العسكري الياباني.
الأطماع اليابانية في الصين
وكان الخوف الأميركي في محله، فبعد 6 سنوات فقط من إعلان إصلاح الإمبراطور مايجي حصلت اليابان على موافقة الصين في السيطرة على جُزر ريوكيو، وفي العام التالي 1875 سيطرت على أرخبيل جزر الكوريل الشمالي من روسيا.
وفي عام 1874، أرسلت حملة عسكرية تأديبية إلى تايوان -التي كانت تابعة للصين وقتها- لأن صيادين منها تعدوا على صيادي ريوكيو اليابانيين، وأُجبرت الصين على الموافقة على دفع تعويضات.
ولم يتوقف التوسع الياباني واستعراض القوة على حساب الصين عند هذا الحد، إذ أرادت التدخل في كوريا التي كانت تُحكم مِن قِبل أُسرة تُسمى مين.
كانت اليابان تعتبر كوريا منفذها البري إلى القارة الآسيوية وخيراتها التي كانت تطمح إليها، ولهذا السبب استغلت قيام ثورة داخلية في كوريا -للفلاحين ضد الضرائب والظلم الاجتماعي الحاصل- لتحقيق مشروعها، ولكن في المقابل ولأنها كانت تخضع بصورة رسمية للحكم الإمبراطوري الصيني، فكان من الطبيعي أن ترفض الصين التدخل الياباني في كوريا.
كانت المسألة الكورية هي العامل الأساسي في اندلاع الحرب اليابانية الصينية الأولى بين يوليو/تموز 1894 وأبريل/نيسان 1895، وفيها دخلت اليابان مُسلحة بربع مليون جندي، وظهر تقدّم تسليحي وعسكري واضح مقارنة بالصين التي كانت لا تزال قواتها بدائية متأخرة.
وكان الأسطول الياباني البُخاري السبب المباشر في الانتصار على الأسطول الصيني المتأخر في البحر الأصفر قبالة كوريا.
وأمام هذه الهزيمة، اعترفت الصين بما لا يقبل الشك باستقلال كوريا الكامل، وإلغاء جميع التعهدات الكورية نحو الصين، وأُعطيت اليابان حق السيطرة على تايوان والجزء الشرقي من شبه جزيرة لياوتانغ في شمال شرقي الصين، مع دفع تعويضات ضخمة، وفتح أهم مدنها وشواطئها أمام اليابانيين تجارا وزوّارا.
واستمرت اليابان في إبراز قوتها الإقليمية في جنوب شرقي آسيا، حتى إنها دخلت في حرب جديدة ضد الجارة الشمالية روسيا القيصرية التي كانت تنافس اليابان في السيطرة على منشوريا في أقصى الشرق الصيني وفي شبه الجزيرة الكورية التي كانت اليابان قد رفعت يد الصين عنها وزاد فيها نفوذها السياسي والاقتصادي والعسكري.
وأدركت اليابان أن روسيا تعوق طموحاتها التوسعية في آسيا بما عُرف بمشروع “الآسيوية الكبرى”، وكان من النتائج المباشرة لهذا التنافس أن اشتعلت الحرب الروسية اليابانية في عامي 1904 و1905، وجاءت المفاجأة المدوية بهزيمة روسيا أمام اليابان، واضطرارها الانسحاب من منشوريا وكوريا، وتنازلها عن بعض الجزر الأخرى.
وبهذا بلغت اليابان ذروة قوتها العسكرية في ظل الإمبراطور مايجي الذي توفي عام 1912، فبفضل هذا الإمبراطور تحولت اليابان من دولة إقطاعية زراعية بدائية إلى إمبراطورية إمبريالية متطورة تملك جُل عناصر القوة.
وأضحت أقوى دولة في جنوب شرقي آسيا، تسيطر على تايوان وأجزاء من الصين وتُخضع جزر الكوريل الروسية إليها، فضلا عن نفوذها المتنامي في كوريا.
الذروة العسكرية
وفي الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، أدى اصطفاف اليابان بجانب بريطانيا وفرنسا إلى زيادة نفوذها في سيبيريا ومنغوليا الداخلية ومنشوريا بالصين وبحر جنوب الصين.
وبعد انتهاء الحرب، شاركت اليابان في مؤتمر فرساي عام 1920 ومؤتمر واشنطن عام 1921، وتم الاعتراف من قبل الدول الكبرى بقوة اليابان الصاعدة، واتفقوا كذلك على وجود مصالح مشتركة في المحيط الهادي، ولكن طوكيو كانت تطالب في هذه المؤتمرات بالمناطق التي كان يوجد فيها الألمان في الصين قبل وأثناء الحرب العالمية الأولى، ومنح اليابانيين الذين يعيشون في الصين امتيازات مقارنة بغيرهم.
ومن ثم خرجت اليابان من هذه الاتفاقات بمكاسب كبيرة في شرق آسيا والمحيط الهادي، وكانت الصين من أكبر الخاسرين مع زيادة تسلح اليابان البحري، وإقرار دول الحلفاء بالمصالح اليابانية في الصين.
وفي عام 1927، وضع رئيس وزراء اليابان ووزير خارجيتها آنذاك تاناكا غيتشي خطة للتوسع الإقليمي وجّهها إلى الإمبراطور، جاء فيها “على اليابان انتهاج سياسة الحديد والنار في ما يتعلق بشرق آسيا، وعلى الخصوص السيطرة على الصين، فكل دول آسيا حتى الهند ودول البحر الجنوبي ستهاب اليابان، وسوف تستسلم أمامها”.
وأضاف أنه “لأجل تحقيق ذلك، لا بد من سحق الولايات المتحدة الأميركية.. وعند امتلاكنا للصين والهند ودول بحر الجنوب (بحر جنوب الصين) نُقدم على السيطرة على آسيا الصغرى (تركيا) ووسط آسيا وأخيرا أوروبا”.
كان تاناكا مؤمنا بضرورة التوسع المسلح، وأنه يجب على اليابان أن تسيطر على منشوريا وهي منطقة شمال شرقي الصين لخصوبتها وأهميتها الاقتصادية وكونها منطلقا لليابان لتحقيق مشروعها “الآسيوية الكبرى” باتجاه الغرب حتى القارة الأوروبية.
وكانت اليابان تتابع ما يحصل من انقسامات داخل الصين والحرب الأهلية بين الشيوعيين بقيادة ماو تسي تونغ والوطنيين بقيادة تشان كي تشيك، ودعم الأميركان لهذا الأخير ومجيئهم من عسكريين ورجال أعمال إلى الصين لهذا الغرض.
احتلال منشوريا
وفي 18 سبتمبر/أيلول 1931 كانت الفرصة سانحة لليابان حين انفجرت قنبلة في خط حديد جنوب منشوريا بالقرب من مدينة موكدن، فأعلنت طوكيو أن هذا الحادث دليل على خطر انتشار الفوضى في المنطقة وأنه يجب الحيلولة دونه، وبعد 3 أيام احتلت القوات اليابانية موكدن، وفي خلال أسابيع قليلة تمكنت من احتلال جميع المدن المنشورية.
في المقابل، رفضت الصين هذا الوجود العسكري الياباني واعتبرته احتلالا، ولأنها كانت عاجزة عن الرد عسكريا، عملت على مقاطعة المنتجات اليابانية في شنغهاي، وصادرت جميع السفن والمنتوجات اليابانية في الموانئ الصينية.
وبحلول عام 1932، ترسخ الاحتلال الياباني لمنشوريا الصينية، وفي التاسع من مارس/آذار من العام نفسه تشكلت في منشوريا حكومة مونشوكو، وهو الاسم الذي أُطلق على منشوريا بزعامة الأمير الصيني الموالي لليابان بو- بي، ولكن عقب الثورة الصينية التي اندلعت في ذلك العام تمت إزاحته لاحقا عن العرش.
وكانت الصين في سبتمبر/أيلول 1931 قد رفعت شكوى رسمية لعصبة الأمم تشكو فيه اليابان لاحتلالها منشوريا، وعلى إثر ذلك انعقد المجلس وأصدر قرارا طلب فيه من القوات اليابانية الانسحاب من منشوريا، الأمر الذي جعل اليابان تقرر الانسحاب من عصبة الأمم في 27 مارس/آذار 1933.
واستمر احتلال اليابان لمنشوريا حتى إذا جاء العام 1936 تم تشكيل حكومة عسكرية في طوكيو مدعومة من رجال الأعمال اليابانيين ممن كانوا متعطشين لاستمرار التوسع الياباني في الشرق الآسيوي على حساب الجيران الضعفاء وعلى رأسهم الصين ذات الثروات والأراضي الخصيبة، وتأديبا لها على مقاطعة المنتجات اليابانية، التي أدت إلى حصول كساد كبير للبضائع، وخسارة أكبر لرجال الأعمال هؤلاء، ويضاف إلى ذلك زيادة أعداد السكان في اليابان بشكل كبير فاق قدرة البلاد على الاستيعاب.
وبسبب انشغال الدول الكبرى في الحرب الأهلية الإسبانية الكبرى في ذلك العام، واختبار اليابان العالم والدول الكبرى في احتلالها منشوريا الصينية سابقا، كل هذا شجع الحكومة العسكرية في طوكيو على اتخاذ قرار التوسع، وزيادة الميزانية العسكرية التي بلغت 40% من الميزانية العامة للبلاد.
وفي السابع من أغسطس/آب 1937، اتخذ مجلس الوزراء الياباني قرارا باتخاذ إستراتيجية للتوسع في السنوات التالية، وجعل بلادهم قوة ضاربة في شرق آسيا، والتحضير لمواجهة السوفيات، ومساواة القوة العسكرية لليابان ببريطانيا والولايات المتحدة.
احتلال الصين
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف، بحثت الحكومة اليابانية عن إنشاء تحالفات عسكرية قوية مع ألمانيا، الأمر الذي سهّل عليها الهجوم على الصين في عام 1937 إثر حادث عرضي لقواتهم المتمركزة في منشوريا اتخذته حجة لبدء الحرب.
وفي غضون عام ونصف عام من بدء العدوان، تمكنت طوكيو من احتلال كبرى المدن التجارية والصناعية في الصين مثل شنغهاي وبكين وكالجان وهان كانو ومدنا أخرى، مما يعني أن 40% من سكان الصين أصبحوا فعليا واقعين تحت الاحتلال الياباني.
وأمام هذا الغزو الياباني للصين وارتكابه فظائع كبيرة بحق المدنيين والعسكريين، سارع كل من شيوعيي الصين بقيادة ماو تسي تونغ والوطنيين بزعامة تشان كي تشيك لطي خلافاتهم والتوحد لمواجهة هذا العدوان، ووجدوا في الاتحاد السوفياتي أهم داعم لهم في هذه المعركة، نظرا للثأر القديم بين اليابان وروسيا أولا، وثانيا لإدراك السوفيات خطورة الأحلام الإمبريالية اليابانية فيما بعد الصين على وسط آسيا وجنوب روسيا.
ونظرا لعجز عصبة الأمم عن حل هذه المشكلة، سارع الاتحاد السوفياتي بمنح مساعدات مادية وعسكرية كبيرة للصين بلغت 50 مليون دولار في عام 1938، وفي العام نفسه قدم قرضا مماثلا وزوّدوا الصين بأسلحة ومعدّات وقطع غيار وأرسلوا متطوعين إليها لمحاربة القوات اليابانية.
الانهيار
وكان من اللافت أن الدول الاستعمارية الكبرى مثل بريطانيا فرنسا والولايات المتحدة التي كانت لها مصالح في هذه المنطقة، اتخذوا جميعا موقف الحياد وعدم التدخل، في المقابل فرضت اليابان حصارا بحريا خانقا على موانئ الصين فأمست معزولة عن العالم كله، واستمرت اليابان في سياستها حين أخضعت أجزاء واسعة من الصين وبحر جنوب الصين لسيادتها العسكرية والبحرية.
وفي المقابل، دخلت الحرب الصينية اليابانية منعطفا جديدا مع اشتعال الحرب العالمية الثانية عام 1939، وانخراطها في التحالف مع دول المحور ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية، الأمر الذي جعل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تدعم بقوة القوات الصينية المناهضة للاحتلال الياباني بالمال والسلاح، فضلا عن الاتحاد السوفياتي الذي كان قد اتخذ هذا القرار مبكرا.
وقد أدى الهجوم الياباني على ميناء بيرل هاربر الأميركي عام 1941 إلى اشتعال المواجهة العسكرية المباشرة بين الولايات المتحدة واليابان في المحيط الهادي، وانتهى المطاف بإلقاء القنبلة النووية الأميركية على هيروشيما وناغازاكي، فاستسلمت اليابان، وقبلت بالشروط الأميركية ودول الحلفاء.
وانتهى عصر الإمبريالية الياباني الذي بدأ منذ عام 1868 مع الإمبراطور مايجي، ليبدأ عصر جديد ستحدد فيه أميركا العقيدة العسكرية اليابانية لفترة زمنية طويلة.