شهدت السنوات القليلة الماضية انتشارًا واسعًا لمصطلح “التلاعب النفسي” أو “غازلايتينغ”، بالتزامن مع الاهتمام المتزايد بعلم النفس الشعبي، حتى وصل إلى لقب “كلمة العام” 2022 في قاموس وبستر. ومع تزايد استخدام هذه المصطلحات في الحكم على الذات وعلى الآخرين، يثير خبراء النفس مخاوف من إساءة الفهم والاستخدام، خاصةً مع التأثير الكبير لوسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت.
أشار خبراء نفسيون إلى أن مجرد حدوث خلاف لا يعني بالضرورة التعرض للتلاعب النفسي. وبينوا أن التمييز بين الخلافات الطبيعية وأساليب التلاعب أمر بالغ الأهمية، خاصةً وأن التعريفات غير الدقيقة قد تؤدي إلى اتهامات خاطئة وإلحاق الضرر بالعلاقات.
ما هو التلاعب النفسي؟
يُعد التلاعب النفسي أحد أشكال الإساءة العاطفية التي يمكن أن تحدث في مختلف أنواع العلاقات، سواء الرومانسية أو العائلية أو المهنية. يتمثل جوهر هذا التلاعب في محاولة جعل الضحية تشكك في إدراكها للواقع، أو في ذكرياتها، أو حتى في سلامة عقلها.
وتعرفه الدكتورة ساكشي كابور، المتخصصة في علم النفس، بأنه “خداع نفسي يهدف إلى زعزعة ثقة الشخص في أفكاره وتجاربه، مما يجعله يشعر بالارتباك والشك في قدراته العقلية والجسدية”. يهدف هذا النوع من الإساءة إلى التحكم بالضحية وتقويض استقلاليتها.
تشير الدراسات إلى أن الهدف الرئيسي من التلاعب النفسي هو تغيير الموضوع، ونقل الشعور بالذنب إلى الطرف الآخر، وإقناعه بأنه هو المخطئ أو المسؤول عما حدث. وغالبًا ما يكون هذا التلاعب خفيًا وتدريجيًا، مما يجعل من الصعب على الضحية تحديد ما يحدث.
أمثلة على التلاعب النفسي
من أبرز مظاهر التلاعب النفسي إنكار الحقائق الواضحة، والتصرف وكأن الأمور لم تحدث أبدًا. قد يتضمن أيضًا تحريف الأحداث، أو التقليل من أهمية مشاعر الضحية، أو استخدام التهديدات والإشارات الخفية للسيطرة عليه.
وتنبه الدكتورة شيرين محسن، الأخصائية في علم النفس المعتمدة، إلى أن التلاعب النفسي يتجاوز مجرد الانتقاد أو الاختلاف في وجهات النظر. فالأمر يتعلق بمحاولة متعمدة لتشويه إدراك الضحية للواقع وإضعاف ثقته بنفسه.
التعمد والتكرار سمة أساسية في التلاعب النفسي الحقيقي
يؤكد خبراء النفس أن التلاعب النفسي الحقيقي لا يقتصر على حادثة واحدة، بل يتسم بالتعمد والتكرار. وهذا يعني أن المسيء يكرر نفس الأساليب بشكل ممنهج لإضعاف الضحية والسيطرة عليها. فمجرد العثور على فعل واحد قد يُنظر إليه على أنه تلاعب، لا يعني بالضرورة أنه تلاعب حقيقي.
ويشير الدكتور بنجامين بيرنشتاين، أستاذ علم النفس، إلى أن التلاعب النفسي يتضمن محاولة متعمدة لجعل الضحية تشك في صحة مشاعرها، أو في حكمها على الأمور. وهذا يختلف عن مجرد الاختلاف في الرأي، أو عن عدم القدرة على التواصل بشكل فعال.
من المهم التمييز بين التلاعب النفسي وسلوكيات أخرى قد تبدو مشابهة، مثل الدفاع عن النفس أو محاولة تجنب المواجهة. فالدفاع عن النفس قد يتضمن بعض الأساليب السلبية، ولكنه لا يهدف إلى تدمير ثقة الضحية بنفسه.
متى قد نخطئ في اعتبار موقف ما تلاعبًا نفسيًا؟
غالبًا ما نخلط بين الخلافات العادية والتلاعب النفسي، خاصةً عندما نكون في حالة من الغضب أو الإحباط. لكن من المهم أن نتذكر أن الاختلاف في وجهات النظر، أو حتى الكذب في بعض الأحيان، لا يعني بالضرورة أننا نتعرض للتلاعب.
قد نعتبر أن شخصًا ما يتلاعب بنا عندما ينتقدنا أو يصحح أخطاءنا، ولكن هذا قد يكون مجرد تعبير عن رأيه أو محاولة لمساعدتنا على التحسن. التلاعب النفسي الحقيقي يتجاوز ذلك إلى محاولة زعزعة ثقتنا بأنفسنا.
إضافةً إلى ذلك، قد ننسب بعض السلوكيات إلى التلاعب بينما هي ناتجة عن ضعف مهارات التواصل لدى الشخص الآخر. فعدم القدرة على التعبير عن المشاعر بشكل واضح، أو على حل النزاعات بشكل بناء، لا يعني بالضرورة أن الشخص يتلاعب بنا.
في الختام، يظل فهم التلاعب النفسي والتمييز بينه وبين السلوكيات الأخرى أمرًا بالغ الأهمية للحفاظ على صحتنا العقلية والعاطفية. ويتطلب ذلك الوعي والتحليل النقدي للعلاقات التي نعيشها.
من المتوقع أن يستمر الاهتمام بموضوع التلاعب النفسي في التزايد، مع زيادة الوعي بأضراره وتأثيره على الأفراد والمجتمعات. وينبغي التركيز على تطوير برامج التوعية والتثقيف التي تساعد الناس على التعرف على علامات التلاعب، وكيفية التعامل معه، وكيفية بناء علاقات صحية ومستدامة. يبقى التحدي في تحديد مدى انتشار هذه الظاهرة، وتطوير استراتيجيات فعالة للوقاية منها.













