منذ القدم ارتبطت العزلة بالحب والإبداع والبحث عن المعنى. الأنبياء والفلاسفة والشعراء والفنانون جميعهم عرفوا لحظات الابتعاد عن الناس، وكأن الإبداع لا يولد إلا في مساحات الصمت والهدوء والانفراد.
العزلة ليست حالة من الانفصال الجسدي، بل هي انفراد نفسي وفكري معقّد، تختلط فيها حدود الأمل بالوحشة، والإبداع بالوحدة، والسكينة بالغربة. فهل هي منبع إلهام يتزود منه المبدعون؟ أم غربة تهدد كينونتنا الاجتماعية؟
إنها ذلك السكون الذي يسمح للمبدع أن يسمع صوته الداخلي بلا ضجيج، ليعزف ألحانه الخفية ويحوّلها إلى جمال يبهر العالم. فقد كتب نيتشه أجمل أفكاره في جبال الألب، وكاتبنا العظيم نجيب محفوظ كان يختلي بنفسه على سطح بيته ليبني عالمه السردي الصخب.
في مثل هذه الحالات تكون العزلة واحة خصبة للفن والجمال.
وأنا، في لحظات عزلتي، أجد نفسي أقرب ما أكون إلى الاتزان وسط صخب الحياة وضغوطها. حين أنسحب إلى عالمي الصغير، أشعر أنني أتنفس بعمق للمرة الأولى. هناك، في صمت بعيداً عن العيون، أكون أنا فقط: أنا وهواياتي، أنا وكتبي، أنا وأوراقي وأقلامي، أنا ولوحاتي المعلقة بين الألوان والأحلام. في تلك اللحظات يتجلّى السلام داخلي كجدول ماء صافٍ، وتغمرني طمأنينة لا يمنحها لي شيء آخر. إن العزلة بالنسبة لي ككاتبة وقارئة وهاوية للرسم ليست فراراً من العالم، بل لقاء حميمي مع ذاتي، أخرج منه أكثر قوة، وأكثر امتلاءً بالحياة.
لكن الوجه الآخر للعزلة مظلم وقاسٍ؛ حين تتحول إلى كهف يلتهم الروح، وظلام يبتلع النفس حتى تذبل. هنا تصبح العزلة هلاكاً، وتغدو الوحدة سجناً داخلياً لا يخرج منه الإنسان إلا منهكاً فاقداً للحياة.
إذن، ما الفارق بين الوجهين؟
حين تكون العزلة اختيارية، مؤقتة، وهادفة، فهي مساحة للتأمل والتفكر، موعد للقاء الذات بلا أقنعة، والتزود بطاقة صافية تعيننا على الحياة. أما إن تحولت إلى هروب دائم من الذات والآخرين، وإلى قطيعة مع العالم، فهي عندئذ فخّ قاتل يستهلك النفس بدل أن يحييها، احذر من أن تكون سجان نفسك وسجينها.
والمطلوب هو الوعي والاتزان؛ أن ندرك متى ننغمس في العزلة ومتى نهرب منها. فنحن اليوم في عصر الاتصال المستمر والضجيج الرقمي، حيث تلاحقنا الشاشات والأخبار المتسارعة بلا توقف، ما يجعل العزلة أكثر ضرورة من أي وقت مضى. لكنها يجب أن تكون عزلة حقيقية، لا عزلة موهومة خلف شاشات التواصل الافتراضي.
بهذا المعنى تصبح العزلة شكلاً من أشكال المقاومة الهادئة ضد الاستهلاك السريع لكل شيء: الوقت، الأفكار، المشاعر. إنها انسحاب مؤقت لا من الحياة، بل من طوفانها المرهق. فالعزلة في جوهرها، مرآة نرى فيها أنفسنا دون فلترة، ونكون وجهاً لوجه مع حقيقتنا المجردة، فهل نحن مستعدون لهذا اللقاء؟ قد يكون في هذا اللقاء خلاصاً وإلهماً. وقد يكون ألماً لا يشفى.
لهذا سيبقى السؤال قائماً بلا إجابة: «هل العزلة ضرورة إبداعية، أم اختيار إنساني؟» ربما تكون الاثنان معاً. وربما هي دعوة لنتعلم كيف نكون وحدنا دون أن نشعر بالوحدة، وكيف نصغي إلى ذواتنا دون أن نصبح أسرى لصمتها.
أخبار ذات صلة