ظلّ وضع الكتاب في سورية معقداً لعقود، بين قيود الرقابة والخوف المتزايد. وبعد مرور أكثر من خمسين عاماً على حكم الحزب الواحد، لا يزال مستقبل النشر في البلاد يحمل الكثير من الغموض، على الرغم من التغييرات السياسية التي شهدتها سورية. يواجه الناشرون والمؤلفون تحديات جديدة، تتعلق بالوضع الاقتصادي، والتسويق، وغياب قوانين واضحة تحكم قطاع النشر بعد سقوط النظام السابق.
ما بعد السقوط: واقع الكتاب السوري الجديد
مع الإعلان عن سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024، شهد المشهد الثقافي السوري تحولات ملحوظة، وإن لم تكن جذرية كما كان متوقعاً. يقول محمد سالم النوري، صاحب مكتبة النوري في دمشق، وهي من أقدم المكتبات في المدينة: “تغيّر المشهد جذرياً، أُزيلت القيود الرقابية بشكل لافت، وبدأت الكتب المحظورة سابقاً تعود إلى الواجهة.” وأضاف النوري أن بإمكانهم الآن عرض كتب تناقش قضايا سياسية واجتماعية لم يكن بالإمكان لمسها في السابق، مثل تلك المتعلقة بالحركات السياسية والاضطرابات التي شهدتها البلاد.
أشار النوري إلى أن الطلب زاد على كتب محددة بعد التغيير، مثل كتب أدب السجون التي تتناول تجارب المعتقلين السياسيين، ومؤلفات ياسين الحاج صالح، والكتابات الدينية التي كانت محظورة، مثل أعمال سيد قطب والإمام الغزالي، بالإضافة إلى مذكرات شخصيات بارزة مثل فاروق الشرع، والروايات العالمية التي كانت تخضع لتدقيق أمني.
التحديات الاقتصادية وتسويق الكتاب
على الرغم من إزالة القيود الرقابية، يواجه قطاع النشر في سورية صعوبات جمة، أبرزها الأوضاع الاقتصادية المتردية. يؤكد النوري أن “تكلفة الطباعة مرتفعة، والوضع الاقتصادي العام يعيق القوة الشرائية للمواطنين، بالإضافة إلى مشكلة قرصنة الكتب، وتوقف رواتب العاملين في الدولة.” هذه العوامل مجتمعة تؤدي إلى ضعف التسويق وتراجع المبيعات.
مكتبات الرصيف: أيقونة ثقافية تواجه مصيراً مجهولاً
لطالما مثلت مكتبات الرصيف جزءاً لا يتجزأ من المشهد الثقافي في دمشق، حيث كانت تتيح الوصول إلى الكتب بأسعار معقولة. لكن هذه المكتبات واجهت قمعاً شديداً من قبل الأجهزة الأمنية للنظام السابق، كما يروي عبد الله خلف الحمدان، بائع كتب على الرصيف منذ ثلاثة عقود: “قامت الأجهزة الأمنية بمصادرة جميع محتويات مكتبات الرصيف بدمشق قبل سقوط النظام بأشهر، بذريعة أن الشارع ليس مكاناً لبيع الكتب.”
يقول الحمدان إن القراء اليوم “متعطشون لفهم ما جرى في المرحلة السابقة”، ويزداد الطلب على كتب التاريخ السياسي السوري، والكتب التي تتناول موضوعات الحرية والديمقراطية، والروايات التي تعكس واقع الحياة في سوريا. لكنه يضيف، أن إعادة ظهور مكتبات الرصيف بشكل كامل لا يزال أمراً بعيداً، نظراً للظروف الأمنية والاقتصادية.
الرقابة بعد السقوط: هل انتهى الأمر فعلاً؟
وبالنسبة لمدير النشر والتوزيع في الدار العربية للعلوم ناشرون، غسان شبارو، “لا يبدو أن هناك تراجعاً أو تقدماً” في ما يتعلق بالرقابة على الكتاب في سورية. ويشير إلى أن وزارة الإعلام وعدت باحترام الحريات، لكن لم يصدر حتى الآن أي تشريع ينظم قطاع النشر بشكل واضح. ويؤكد شبارو أن الوضع الحالي “ضبابي”، وأن استكشاف حدود الرقابة الجديدة يتطلب “تجريبًا” مستمرًا.
من جهتها، ترى رانيا المعلم، مديرة النشر والتوزيع في دار الساقي، أن هناك عوامل أخرى تعيق تطور قطاع النشر في سوريا، مثل “صعوبة شحن وتوصيل الكتب، والوضع الأمني غير المستقر، والقدرة الشرائية المنخفضة”. وتضيف أن هذه العوامل تجعل من الصعب على دور النشر العربية، بما في ذلك دار الساقي، التواجد بشكل فعال في السوق السوري.
يصف الكاتب والصحفي علي سفر الوضع بأنه “شهد تراكمًا طويلاً” مؤكدًا أن النُشّار كانوا على دراية بما تريده السلطات سابقاً، لكن الأمور الآن غير منظمة. يرى سفر أن استعادة القطاع الثقافي يتطلب إصدار قوانين واضحة، ودعم الدولة لمؤسسات النشر، وتعزيز الحريات الثقافية.
ويبدو مستقبل الكتاب في سورية معلقاً بين آمال التغيير وتحديات الواقع. من المتوقع أن تتخذ وزارة الإعلام السورية خطوات لتنظيم قطاع النشر خلال الأشهر القادمة، ولكن يبقى السؤال مفتوحاً حول ما إذا كانت هذه الخطوات ستؤدي إلى تعزيز الحريات الثقافية أم إلى فرض قيود جديدة، وما الذي ستؤول إليه أوضاع مكتبات الرصيف التي شكلت أيقونة ثقافية لسنين طويلة. المؤشرات الحالية تُظهر أن الوضع الاقتصادي المتردي سيظل العائق الأكبر أمام ازدهار النشر في البلاد.













