باريس – تشهد أوروبا تحولاً استراتيجياً غير مسبوق في أعقاب عقود من الاستقرار النسبي، حيث يتم إعادة تقييم مفاهيم الأمن الجماعي والاستعدادات الدفاعية. هذا التحول يأتي نتيجة لتغيرات جيوسياسية متسارعة وتصاعد التوترات العالمية، مما دفع القارة إلى مواجهة واقع جديد يتطلب تعزيز قدراتها العسكرية والتحلي بالجاهزية في ظل احتمال نشوب صراعات مسلحة. وتُعد قضية الأمن الأوروبي الآن على رأس أولويات القادة والخبراء.
وتدرك الدول الأوروبية أن الاعتماد على الضمانات الأمنية الخارجية وحده لا يكفي، وأن بناء قوة ردع ذاتية هو ضرورة ملحة لضمان الاستقرار والحفاظ على المصالح. ويشمل هذا التحول زيادة الإنفاق الدفاعي، وتحديث الترسانات العسكرية، وتعزيز التعاون الأمني بين الدول الأعضاء.
الردع والتسلح: محوران أساسيان في الأمن الأوروبي
يرى مراقبون أن أوروبا أصبحت مقتنعة بأن الحفاظ على توازن الردع هو الضامن الأفضل لتجنب الدخول في حرب جديدة. لذلك، تتجه معظم الدول الأوروبية إلى زيادة ميزانياتها الدفاعية وإعادة تسليح جيوشها. تشير التقديرات إلى أن ما بين 75% و 80% من الدول الأوروبية تتبنى هذا التوجه بشكل فعلي.
وتعتبر هولندا مثالًا بارزًا على هذا التحول، حيث تخطط لرفع عدد أفراد جيشها إلى 200 ألف جندي، مقارنة بـ 75 ألفًا حاليًا. ويعكس هذا القرار إدراكًا متزايدًا للتهديدات المحتملة وضرورة الاستعداد لمواجهتها.
وعلى الرغم من أن المخاوف الأمنية تركز بشكل كبير على روسيا، إلا أن التحديات لا تقتصر عليها. فوفقًا للتقارير، تشكل الصين قوة متنامية ذات طموحات جيوسياسية واقتصادية واسعة النطاق، مما يؤثر على مصالح أوروبا في مناطق مختلفة من العالم، وخاصة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.
وتتمثل إحدى العقبات الرئيسية أمام تعزيز الأمن الأوروبي في الرأي العام الذي لم يعتد بعد على فكرة التهديدات الأمنية. يقول محللون إن هناك فجوة بين الوعي الأمني لدى القيادات العسكرية وتصورات المواطنين العاديين، الذين نشأوا في ظل فكرة “السلام الأبدي”.
ويتطلب سد هذه الفجوة جهودًا كبيرة لتوعية الجمهور بأهمية الأمن والدفاع، وشرح التحديات التي تواجه القارة. ويجب على الحكومات أن تكون قادرة على إقناع الرأي العام بضرورة اتخاذ إجراءات استباقية لحماية المصالح الأوروبية.
حصن الناتو: دور حلف شمال الأطلسي في حماية أوروبا
لا يزال حلف شمال الأطلسي (الناتو) يلعب دورًا حيويًا في الأمن الأوروبي، حيث يوفر إطارًا مؤسسيًا وعسكريًا موحدًا لتعزيز التعاون الدفاعي. يتيح الناتو تبادل المعلومات والخبرات، وتنفيذ التدريبات المشتركة، وتنسيق الاستجابة للأزمات.
ومع ذلك، لا يخلو حلف الناتو من نقاط الضعف. فإن الإنفاق الدفاعي لبعض الدول الأعضاء، وخاصة في أوروبا، لا يزال أقل من المستويات المطلوبة. في حين أن الولايات المتحدة تنفق حوالي تريليون دولار على الدفاع، فإن إجمالي الإنفاق الدفاعي للدول الأوروبية يقارب 380 مليار يورو.
وبالإضافة إلى ذلك، تواجه الجيوش الأوروبية تحديات تتعلق بنقص القوى البشرية والمعدات. وقد دفع هذا النقص بعض الدول إلى التفكير في إعادة التجنيد الإلزامي.
“شنغن عسكري”: تسهيل حركة القوات في أوروبا
لمواجهة التحديات الإدارية والقانونية التي تعيق حركة القوات العسكرية داخل أوروبا، تم تطوير مبادرة “شنغن عسكري”. تهدف هذه المبادرة إلى تسهيل نقل القوات والمعدات العسكرية عبر الحدود الأوروبية، مما يتيح استجابة أسرع وأكثر فعالية للأزمات.
وبموجب اتفاقية “شنغن عسكري”، يتم رفع القيود التي كانت مفروضة على حركة القوات العسكرية، مثل الحصول على التصاريح المسبقة واحترام القواعد المرورية المحلية. ويسمح هذا للقوات بالتحرك بحرية أكبر عبر القارة.
التحديات الاقتصادية والاستعداد للحرب
الاقتصاد الأوروبي يواجه تحديات كبيرة في ظل تصاعد التوترات الأمنية. يشير محللون إلى أن أوروبا بحاجة إلى اقتصاد قادر على “تحمل الحرب”، أي قادر على توفير السلع الأساسية والطاقة والمواد الإستراتيجية في حالة نشوب صراع. ويعتمد هذا على تنويع مصادر الطاقة والمواد الخام، وتعزيز الإنتاج المحلي، وبناء احتياطيات استراتيجية.
وبحسب الخبراء، فإن أوروبا أمام نافذة زمنية تتراوح بين 3 و5 سنوات لتجهيز نفسها عسكريًا واقتصاديًا وإداريًا. خلال هذه الفترة، يجب على الدول الأوروبية أن تستثمر في تعزيز قدراتها الدفاعية، وتطوير بنيتها التحتية، وتوعية الرأي العام بأهمية الأمن والدفاع.
في الختام، يشهد الأمن الأوروبي تحولاً عميقاً نتيجة للظروف الجيوسياسية المتغيرة. بينما تعمل الدول الأوروبية على تعزيز قدراتها الدفاعية وتحديث استراتيجياتها الأمنية، فإن مستقبل هذه الجهود لا يزال غير مؤكدًا ويتوقف على تطورات الأحداث العالمية وقدرة أوروبا على التغلب على التحديات الداخلية والخارجية. من المتوقع أن تشهد الأشهر والسنوات القادمة المزيد من النقاشات والقرارات المتعلقة بالأمن الأوروبي، مع التركيز على تحقيق توازن بين تعزيز القدرات الدفاعية والحفاظ على القيم الديمقراطية والمبادئ السلمية.













