لأول مرة منذ 13 عامًا، استقبلت حلب، عاصمة الاقتصاد السوري، وفدًا تركيًا في إطار “تعزيز التعاون التجاري”. وهي خطوة تستحق أن تُراجع على ضوئها العلاقة الاقتصادية بين البلدين، وأثرها خاصة في حلب حيث تُتهم أنقرة بأنها المستفيد الأول من “موت” المدينة اقتصاديًا بعد أن كانت محرك عجلة التنمية في البلاد.
على مدى عقود، كان يُنظر لحلب على أنها درّة الصناعة السورية وأحد أهم المحركات الاقتصادية لسوريا، إذ كانت المصدر الأساسي لأهم وأجود المنتجات التي تُصدّر إلى العالم، بدءًا من الحرير والخزف الصيني وقطن آسيا الوسطى، وصولًا إلى الكريستال والزجاج الإيطالي والتوابل الهندية، بالإضافة إلى الصابون الفارسي.
وعلى المستوى المحلي، كانت حلب وحدها مسؤولة عن 25٪ من الناتج المحلي، و50٪ من صادرات البلاد، إذ كانت تتميز المنطقة الصناعية فيها، المعروفة بـ”الشيخ نجار”، بأكثر من ألف كشك ومتجر، يحمل كل زقاق منها اسمًا للدلالة على ما يحتويه، مثل سوق الصوف أو العطار أو كوبر، وغيرها.
تركيا قبل وبعد الثورة السورية
خلال فترة “شهر العسل التركي السوري”، كانت أنقرة من أكبر المستثمرين في دمشق. وتشير بيانات اتحاد مصدري جنوب شرق الأناضول إلى أن حجم الصادرات من المنطقة إلى سوريا قبل الثورة في عام 2010 كان نحو 224.3 مليون دولار.
أما بعد اندلاع الثورة السورية وتحول الصداقة إلى عداوة بين البلدين، اتُهمت أنقرة مرارًا بما وصفه النظام آنذاك وبعض تجار حلب بأنه “نهب” للثروات السورية، و”سرقة” للمعامل من المدينة القريبة من ولايات الجنوب الشرقي التركي.
ففي عام 2013، زعم اتحاد غرف الصناعة السورية إن “أنقرة سرقت حوالي ألف معمل في حلب وهرّبت معداته، كما تقدمت الحكومة السورية في عهد نظام بشار الأسد برسالتين إلى مجلس الأمن الدولي والأمم المتحدة، تقول فيهما إن تركيا تقوم بـ”أعمال قرصنة وجرائم عابرة للحدود”، مطالبة برد فعل دولي يلزمها بإعادة المعامل لأصحابها ودفع تعويضات.
اتهامات لأردوغان “بنهب” حلب عبر رجال أعمال والاستخبارات التركية
كما ادعى الإداري في غرف اتحادات التجارة والصناعة التابعة لمؤسسة المجتمع المدني في حلب، ماهر هوريك، أن أجهزة الاستخبارات التركية استغلت الحرب الدامية في المنطقة في شهر آب/أغسطس عام 2012، من خلال دعم “جماعة إرهابية مرتبطة بشكل مباشر بالاستخبارات التركية لسرقة ثروات المدينة” وفق تعبيره.
“السرقات” في الاعلام التركي
وفي وقت سابق، قال موقع “نورديك مونيتور” السويدي إن رجل أعمال مقرب من أنقرة، يدعى مراد أوزفاردار، وتعمل زوجته مع الاستخبارات التركية، متهم بتفكيك مصانع سورية في حلب ونقل معداتها إلى تركيا عبر شركات يمتلكها.
وفي أبريل/نيسان 2014، قبلت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ شكوى مقدمة ضد أردوغان، الذي كان يشغل منصب رئيس الحكومة التركية في تلك الفترة على خلفية تورطه بتلك المزاعم.
وبعدها بسنتين، أعلنت وزارة العدل السورية أنها “تتابع دعوى الحق العام الموجهة ضد أردوغان أمام قاضي التحقيق المالي الأول بدمشق على خلفية سرقة 37 منشأة صناعية ومعملا في حلب بلغت قيمة الأضرار الناجمة عنها خمسة مليارات دولار”.
وقد نفت تركيا جميع الاتهامات بحقها، مشيرة إلى أن الأسد يحاول أن يشن ضدها حربًا دعائية، بسبب “دعمها للشعب السوري” ومحاولتها الحفاظ على أراضيها.
استثمارات تركيا في سوريا ما بعد الأسد
وبعد سقوط الأسد، تدفقت المنتجات التركية بشكل كبير إلى دمشق وباقي المدن السورية، في لحظة يأمل الأتراك فيها، كما السوريون، أن تكون فرصة لإعادة الأمور إلى طبيعتها.
في هذا السياق، يقول اتحاد المصدّرين في منطقة جنوب شرق الأناضول إن المرحلة المقبلة في سوريا ستكون “غنية بفرص اقتصادية غير مسبوقة” لناحية دعم التنمية وفتح آفاق جديدة آمام المستثمرين.
من جهتها، عبرت الحكومة السورية المؤقتة عن تفاؤلها بالاستثمار التركي، إذ يقول وزير الاقتصاد، عبد الحكيم المصري: “سوريا متعطشة للاستيراد، وتركيا بحكم قربها أصبحت الشريان شبه الوحيد لنا”.
حلب ونصيبها من الأضرار الاقتصادية
على الرغم من الجدل حول الدور التركي المزعوم في تراجع اقتصاد حلب، إلا أن المدينة، مثل بقية مناطق سوريا، تعرضت لاستنزاف كبير في مواردها الاقتصادية نتيجة حرب مستعرة دمرت الكثير من مقدرتها.
وقد تكبد الاقتصاد السوري خسائر تقدر بحوالي 442.2 مليار دولار بين عامي 2011 و2018.
ووفقًا لتقرير صادر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا)، فإن مدينة حلب تحملت نحو 32.5% من إجمالي الأضرار التي لحقت بسوريا.
وحتى الآن، لا تزال العاصمة الاقتصادية لسوريا تعاني من آثار الحرب بشكل واضح، حيث تشير تقارير الأمم المتحدة إلى نقص حاد في الوقود والطاقة، بالإضافة إلى بنية تحتية مدمرة ونظام صحي متهالك. وقد تم تسجيل أكثر من 63 حالة هزال و18 حالة سوء تغذية بين الأطفال منذ بداية ديسمبر/كانون الأول الجاري.
وفي نفس السياق، أفاد مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية أن الوضع في شمال شرق سوريا لا يزال صعبًا بالنسبة لـ 40 ألف شخص يقيمون في 215 مركزًا جماعيًا للطوارئ، في ظروف إنسانية قاسية.