غزة– خلف ستائر منسدلة على نوافذ موصدة، وأبواب مغلّقة، وتحت ضوء خافت تجتمع هذه العائلة الفلسطينية في المطبخ الداخلي الذي يفترشون أرضه، فهو يقع منتصف البيت وبعيد نسبياً عن مرمى القذائف الإسرائيلية من الجهتين المطلتين على شارعي صلاح الدين شرقاً والسكة غرباً.
إنها الإجراءات الروتينية المعتادة من غروب الشمس حتى شروقها للعديد من العائلات المحاصرة منذ أكثر من شهرين في حي الزيتون جنوب مدينة غزة.
وقد نجحت الجزيرة نت أخيرا في التواصل مع عائلة نصار المحاصرة بعد عدة أيام من المحاولة، نظرا لانقطاع الإنترنت بشكل كامل عن المنطقة وصعوبة الاتصالات إثر قصف الاحتلال أبراج بث الشبكات المحلية.
ورغم قلة العائلات الباقية بالحي، فإن عائلة نصار ترفض المغادرة، ففي المرات السابقة التي نزحوا فيها إلى منطقتي الصناعة وغرب غزة عاش أفراد العائلة حصاراً آخر ولم يسلموا من القصف الذي يستهدف كل بقعة بالقطاع على حد سواء، عدا انعدام خيارات أماكن النزوح، لذا فهم يفضلون الموت في بيوتهم، كما يقولون.
عملية غير معلنة
في ظل تكتم شديد، يشن الاحتلال الإسرائيلي عملية عسكرية مستمرة في حي الزيتون منذ 23 أغسطس/آب حتى اليوم. ولم يعلن الاحتلال عنها ولا عن تفاصيلها رسمياً، سوى ما نشره مؤخراً عن عثوره على نفق يقع في قلب منطقة سكنية داخل الحي، بحسب بيان أصدره قبل أسبوع.
والتكتم الإسرائيلي على تفاصيل هذه العملية وأمدها يقابله شح في المعلومات وانعدام التوثيق والصور، لغياب قدرة الصحفيين والفرق الميدانية على الوصول إلى الحي منذ أشهر، بسبب إحكام الاحتلال سيطرته العسكرية على معظم أجزائه برا وجوا.
وتظهر معالم هذه العملية العسكرية، بإجماع الشهادات التي رصدتها الجزيرة نت، في تواصل القصف المدفعي الجوي على مدار الساعة، وتقدم الآليات بين كر وفر، واستمرار التمشيط اليومي، ووجود قوات خاصة راجلة في بعض النقاط، واعتلاء القناصة الثكنات العسكرية.
وبخلاف ذلك، يفرض الجيش الإسرائيلي حصارا جويا مطبقا على الحي، فلا تنفك الطائرات المسيّرة، ولا سيما “كواد كابتر” عن التحليق في سمائه، وإطلاق رصاصها وقنابلها على كل ما هو متحرك.
وتقول المواطنة (أ ن) للجزيرة نت “منذ أكثر من 70 يوماً لم يتمكن أحد من الخروج من المنزل سوى والدي، فقد خرج مرتين فقط من شوارع خلفية لجلب طعام يكفي 15 فرداً محاصرا من العائلة جلهم من النساء والأطفال”.
ويعتمد المحاصرون على استطلاع الأجواء ومراقبة أصوات المسيّرات والآليات للتأكد من استقرار الوضع قليلا، واستغلاله -رغم ندرته- للخروج اضطراراً.
جثث في الشوارع
وقد كلف العائلات التي رفضت النزوح عشرات الشهداء ممن عزموا على البقاء في البيوت دون حركة أو ضجيج خشية لفت الانتباه، أو من أولئك الذين يحاولون التقدم لتفقد بيوتهم لحظة تحقق هدوء نسبي وإعادة انتشار لقوات الاحتلال.
وتضيف المواطنة “لا يزال عدد من جثث الشهداء ملقى في الشوارع، تنهشها الكلاب الضالة دون القدرة على انتشالها” وتتابع “لا أحد يستطيع الوصول للمنطقة لسحب الجثث، وفي لحظات الهدوء يجازف البعض بجرّها إلى أقرب مفترق ثم تُنقل على عربة يجرها حيوان”.
وفي هذا السياق، كشف الدفاع المدني للجزيرة نت وصول مناشدات من بعض الأهالي بوجود جثث الشهداء في عدة مناطق مثل مفترق دُولة وصالة النجوم ومناطق السكة وجنوب شارع صلاح الدين، لكن طواقمه لا تتمكن من الوصول إليها باعتبارها مناطق حمراء خرجت عن نطاق الخدمة، ولأن التقدم إليها يشكل تهديدا حقيقيا لحياة المنقذين.
وقال المتحدث باسم الدفاع المدني محمود بصل “في بعض الأحيان حين نتأكد من وجود أحياء تحت الأنقاض يجبرنا الدافع الإنساني على المخاطرة والمجازفة، كما حدث مع عائلتي عزّام وحِجّي قبل أيام في “شارع كشكو” حيث استطعنا إنقاذ البعض وانتشالهم من تحت الأنقاض بعد أن استهدفتهم الطائرات الحربية”.
وكشف بصل أن أكثر من ثلثي حي الزيتون مُخلى من سكانه لوقوعه تحت بقعة النار أو ما يسميها الاحتلال “مناطق قتال خطيرة” كون الحي عرضة للاستهداف المدفعي العشوائي والقصف الجوي المستمر. وقال إن سلوك الاحتلال في المناطق المصنفة بهذا التصنيف معروف، حيث يمنح نفسه الحق باستهداف الباقين في تلك الأحياء ويحملهم مسؤولية بقائهم بذريعة أنه أنذرهم بضرورة الإخلاء، كما فعل مع عدد من العوائل التي هدمت منازلها فوق رؤوسها.
مواقيت القصف
يقول الشاب يوسف حسن، أحد سكان حي الزيتون، للجزيرة نت “إن أوقات تقدم الآليات وعمليات التمشيط والقصف المدفعي باتت معروفة لدينا، وتتركز غالبا أوقات الفجر وفي المساء من الساعة 11 ليلا حتى الواحدة صباحا”.
ويلفت إلى أن “هناك سيطرة حقيقية لجيش الاحتلال على “شارع ثمانية” منذ أكثر من 3 شهور وعلى مساحة تزيد على نصف كيلو متر منه من ناحية الخط الشرقي حتى شارع البحر غربا، ويحاول الاحتلال السيطرة على مساحات إضافية خلال عمليته العسكرية الأخيرة”.
أما الصحفي تامر دلول، الذي قصف الاحتلال منزله في حي الزيتون قبل أيام، ودمر معه مربعاً سكنياً كاملا، فيروي للجزيرة نت قائلاً “خرجنا من المنزل قبل 3 شهور فقط رغم بقائنا فيه خلال العمليات البرية الخمس السابقة في الحي، حين صعّد الاحتلال من الكثافة النارية المنهمرة وصار المنزل في مرمى القذائف المدفعية العشوائية حتى دُمر بعد تقدم الاحتلال مؤخرا بالقصف الجوي”.
وابتداء بموقع اللافتة الشهيرة “غزة ترحب بكم” وهي فاتحة العبور لحي الزيتون مرورا بشوارع 10 و9 و8 حتى “مفترق دولة” و”منطقة المثلث” و”وادي العرايس” تخضع هذه المناطق في مساحة تقدر بـ4 كيلومترات للسيطرة العسكرية الإسرائيلية.
ويرى دلّول ومراقبون أن السيطرة على تلك المناطق تأتي في إطار توسيع المنطقة العازلة حول محور نتساريم، إذ أعلن الاحتلال في وقت سابق عزمه ضم مساحات جديدة من الجهتين الشمالية والجنوبية للمحور، وهو ما أكده تقرير “يديعوت أحرونوت” الإسرائيلية عن تحويل ممر نتساريم لقاعدة عسكرية، بطول 8 كيلومترات وعرض 7 كيلومترات.
إستراتيجية الاستنزاف
ورغم كل تدابير الحماية التي يتخذها، لم ينعم الاحتلال بالحماية المطلوبة، في ظل استمرار ضربات المقاومة وعمليات القنص والاشتباك المسلح، والتي كان آخرها الحدث الأمني الذي أعلن عنه يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني بمنطقة نتساريم جنوبي مدينة غزة، والذي أسفر بحسب بيان الجيش عن إصابة ضابطين من وحدة المدرعات بجروح خطيرة.
إنها “سياسة استنزاف مدروسة” هكذا وصف المحلل علي أبو الحسن -في حديثه للجزيرة نت- ما تقوم به المقاومة الفلسطينية منذ عدة أشهر عند محور نتساريم، ويرى أن الهدف هو رفع كلفة بقاء الاحتلال في هذا المحور وإشعار كتيبة الجيش هناك بأنها تحت دائرة الاستهداف على الدوام، عبر استخدام أقل ذخيرة ممكنة.
ويلفت أبو الحسن إلى التحدي الكبير الذي يواجه المقاومة بعد مرور 400 يوم على انطلاق الحرب، إذ يقاتل الفلسطينيون بلا خطوط إمداد ولا ظهير أو طعام أو شراب على الأغلب، وفي بيئة تعاني انكشافا جغرافيا وإستراتيجيا.