في مياه البحر الأحمر، اكتشف العلماء كائناً حياً بسيطاً للغاية يُظهر قدرات ميكانيكية معقدة تتحدى فهمنا للحياة المبكرة. هذا الكائن، الذي يُعرف باسم تريكوبلاكس ادهيرنس، ينتمي إلى شعبة البلاكووزوا، وهو قادر على تغيير شكله من خلال عملية طي وانبساط تشبه فن الأوريغامي، على الرغم من أنه لا يمتلك دماغاً أو جهازاً عصبياً. هذه القدرة الفريدة تثير تساؤلات حول آليات الحركة والتشكل لدى الكائنات الحية، وتفتح آفاقاً جديدة في دراسة التطور البيولوجي.
هذا الاكتشاف، الذي نشر في وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم “بي إن إيه إس”، جاء نتيجة أبحاث فريق من مختبر مانو براكيش بجامعة ستانفورد. ركزت الدراسة على فهم كيفية تمكن هذه الكائنات وحيدة الخلية من التكيف مع بيئتها من خلال تغيير شكلها، وكيف يمكن أن تكون هذه العملية مرتبطة بآليات أساسية في تطور الكائنات الأكثر تعقيداً.
ما هي البلاكووزوا وكيف تعمل؟
البلاكووزوا هي مجموعة من الحيوانات البحرية البدائية التي تتميز ببساطة تركيبها. تتكون هذه الكائنات من طبقة خلوية واحدة أو طبقتين، وتتحرك على الأسطح باستخدام الأهداب. تعتمد في التغذية على امتصاص المواد العضوية من البيئة المحيطة بها.
على الرغم من بساطتها، تُظهر البلاكووزوا سلوكيات معقدة مثل الحركة الموجهة، والتغذية، والقدرة على الاستجابة للمنبهات البيئية. تُعد قدرتها على الطي والانبساط إضافة جديدة إلى قائمة هذه السلوكيات، وتُشير إلى وجود آليات ميكانيكية دقيقة تتحكم في شكلها وحركتها.
آلية الطي والانبساط الفريدة
لاحظ الباحثون أن تريكوبلاكس ادهيرنس لا يظل مسطحاً دائماً، بل يتغير شكله باستمرار. يمكن أن يكون الحيوان مفلطحاً تماماً، مما يسمح له بالزحف على الأسطح وتغطية مساحة أكبر أثناء التغذية. ولكنه في لحظات أخرى، يبدأ في طي حوافه للداخل، مما يغير شكله إلى كرة أو طية.
هذا الطي ليس عشوائياً، بل هو عملية منسقة تتكرر بشكل منتظم. وفقاً للدراسة، تلعب الأهداب دوراً حاسماً في هذه العملية. الأهداب ليست مجرد هياكل تستخدم للحركة، بل تعمل أيضاً كأدوات دقيقة تساعد في تشكيل النسيج ودفعه نحو الطي أو العودة إلى الانبساط.
تستخدم الأهداب احتكاكها بالسطح لتشكيل النسيج ودفعه نحو الطي أو العودة للانبساط، وكأنها أدوات دقيقة تعيد تشكيل صفيحة الخلايا من الداخل للخارج. هذه الميكانيكية المبتكرة تثير اهتمام الباحثين في مجال علم الأحياء الميكانيكي.
أهمية اكتشاف حركة البلاكووزوا
يكشف هذا الاكتشاف عن وظيفة ميكانيكية وهندسية جديدة للأهداب، تتجاوز دورها التقليدي في الحركة. فبدلاً من مجرد أن تكون هياكل تساعد الكائن الحي على التحرك، تبين أنها تلعب دوراً فعالاً في تشكيل الأنسجة وتحديد شكلها. هذه النتيجة مهمة لأنها تضيف بعداً جديداً لفهمنا لكيفية تطور الأنسجة والأعضاء في الكائنات الحية.
طي الأنسجة هو عملية أساسية في التطور الجنيني وفي تشكيل الأعضاء المعقدة مثل الدماغ. فهم كيفية حدوث هذه العملية في كائن بسيط مثل تريكوبلاكس ادهيرنس قد يوفر لنا رؤى قيمة حول آليات التطور في الكائنات الأكثر تعقيداً. بالإضافة إلى ذلك، قد يساعدنا هذا الفهم في تطوير تقنيات جديدة في مجال الهندسة الحيوية، مثل زراعة الأنسجة والأعضاء.
تُشير الدراسة إلى أن هذه الميكانيكا قد تكون سبقت ظهور التحكم العصبي المعقد في الحيوانات الأولى. فقد تكون الكائنات الحية البدائية قد اعتمدت على آليات ميكانيكية بسيطة لتشكيل أجسامها والتكيف مع بيئتها، قبل أن تتطور لديها القدرة على التحكم في هذه العمليات من خلال الجهاز العصبي. هذا الاكتشاف يفتح الباب أمام المزيد من الأبحاث في مجال تطور علم الأعصاب.
من المتوقع أن يستمر فريق البحث في دراسة آليات الطي والانبساط لدى البلاكووزوا، بهدف فهم أفضل لكيفية عمل هذه العملية وكيف يمكن أن تكون مرتبطة بآليات التطور في الكائنات الأخرى. كما يخططون لاستكشاف إمكانية استخدام هذه المعرفة في تطوير تقنيات جديدة في مجال الهندسة الحيوية. ستكون النتائج المستقبلية حاسمة في تحديد مدى أهمية هذا الاكتشاف في فهمنا للحياة وتطورها.













