بقلم: يورونيوز
نشرت في
في لحظة ما من تاريخ الشرق الأوسط، كان يمكن لصدام حسين أن يغيّر جذريّا مجرى الأحداث في المنطقة. ففي سبعينيات القرن الماضي، عرض الرجل الثاني في بغداد وقتها على شاه إيران اغتيال آية الله روح الله الخميني، الذي كان يعيش وقتها في منفاه بالعراق في محاولة لـ “احتواء نفوذه المتصاعد”. لكن الشاه محمد رضا بهلوي، رفض العرض، في قرار اتُّخذ بـ “هدوء وحذر”، لكنه أسهم لاحقًا في تغيير مصير إيران والمنطقة برمّتها، وفق ما أوردته صحيفة “جيروزاليم بوست”.
وبحسب شهادات منفيين إيرانيين وضباط استخبارات سابقين، قدّم صدام، الذي كان آنذاك نائبًا للرئيس العراقي، عرضًا غير معلن إلى الشاه يقضي بـ “القضاء على الخميني”، الذي كان يُقيم في النجف و”يُحرّض ضد نظام بهلوي”. ويُعتقد أن هذا العرض نُقل عبر “قناة سريّة”، ربما خلال لقاء على هامش اجتماعات الأمم المتحدة.
صدام، الذي كان “قلقًا” من نفوذ الخميني المتنامي في أوساط الطائفة الشيعية بالعراق، أبدى استعدادًا لـ “إنهاء وجوده بصفة نهائية”. لكن الشاه “رفض العرض” قائلاً: “نحن لا نغتال رجال الدين”.
ورغم أن تلك اللحظة لم تُوثّق رسميًا، فإنها ترددت في مذكرات ومقابلات أولئك الذين عايشوا الأيام الأخيرة لنظام الشاه، وتُعدّ من اللحظات النادرة التي كادت تغيّر مجرى التاريخ، بحسب الصحيفة عينها.
منفى النجف وصعود التأثير
نُفي الخميني من إيران عام 1964 بعد انتقاده الشديد لما عُرف بـ”الثورة البيضاء”، التي اعتبرها خيانة للإسلام وتكريسًا للهيمنة الغربية على البلاد. وبعد إقامته لفترة وجيزة في تركيا، استقر في النجف، حيث بدأ بتسجيل خطبه على أشرطة كاسيت تُهرّب إلى داخل إيران وتُوزّع في المساجد والأسواق، لتصبح مادة تعبئة سياسية بالغة التأثير.
وبينما كان الشاه يأمل أن “يخفت صوت الخميني” في منفاه، اتسع تأثيره بشكل غير مسبوق، ما أثار قلق صدام، الذي كان يرى في “خطاب الخميني الشيعي تهديدًا مباشرًا لنظام البعث” في العراق.
رسالة صدام إلى الشاه
وفقًا للسفير الإيراني السابق لدى واشنطن أردشير زاهدي، نُقل العرض عبر وزير خارجية العراق آنذاك، الذي قدّم للشاه خياريْن: طرد الخميني من العراق، أو تصفيته جسديًا. وفي رواية أخرى نقلها الصحافي أمير طاهري، وصل برزان التكريتي، شقيق صدام ورئيس جهاز الاستخبارات، إلى طهران في سبتمبر 1978 على متن طائرة عراقية خاصة، حاملاً رسالة شخصية من صدام إلى الشاه، يعرض فيها “المساعدة بأي طريقة ممكنة”، بما في ذلك “إزاحة الخميني”.
ورغم “الامتنان الظاهر” من الشاه، فقد استبعد بشكل قاطع فكرة الاغتيال، وطالب بدلاً من ذلك بطرد الخميني من العراق، وهو ما وافق عليه صدام.
لماذا رفض الشاه عرض صدام؟
تنوعت التفسيرات لرفض الشاه: فالبعض رأى في قراره التزامًا أخلاقيًا برفض الاغتيالات، خصوصًا بحق شخصية دينية؛ بينما اعتبره آخرون قرارًا استراتيجيًا للحفاظ على صورته كحاكم إصلاحي حديث. زوجته، الملكة فرح، قالت في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية (BBC): “كنا نعتقد حينها أن قتله سيحوّله إلى شهيد، أو إلى رمز أكبر”.
غير أن هذا القرار، بكل تعقيداته، كان مفصليًا.
من باريس إلى طهران
بعد تصاعد الاحتجاجات في إيران، وتحت ضغوط داخلية وخارجية، طردت السلطات العراقية الخميني في أكتوبر 1978، ليتجه إلى ضاحية نوفل لو شاتو قرب باريس، حيث وجد بيئة إعلامية مفتوحة، وأصبح صوته يصل إلى الداخل الإيراني عبر الفاكسات والتلفزيون والإذاعة. توافد الشباب الإيرانيون إلى لقائه، وتحولت رسائله اليومية إلى خطاب تعبوي قاد “الثورة” من المنفى. وبعد أربعة أشهر فقط، سقط نظام الشاه.
الأيديولوجيا مقابل الدولة
كان الخميني، رجل الدين المتقشف، بلا حزب ولا جيش ولا موارد، لكنه امتلك ما لم يكن لدى النظام: أيديولوجيا جذابة لقطاعات واسعة من الإيرانيين. جمع بين الفكر الثوري والمعارضة للغرب، وشكّل مشروعًا بديلًا استند إلى الهوية الدينية والتضحية. في المقابل، كان الشاه ونظامه يعانون عزلة شعبية متزايدة، رغم محاولات التحديث والانفتاح.
وأدرك صدام، كما جهاز “السافاك”، “الخطر مبكرًا”. لكن الشاه، سواء بدافع المبادئ أو الرغبة في الحفاظ على صورته، امتنع عن اتخاذ خطوة حاسمة.
ما بعد الرفض
عندما قرر صدام غزو إيران في عام 1980، اعتقد أن الجمهورية الإسلامية الوليدة ضعيفة وهشة، وأنها ستنهار سريعًا. لكن الحرب استمرت ثماني سنوات، خلفت أكثر من مليون قتيل، واستُخدمت خلالها الأسلحة الكيماوية وجُنّد فيها الأطفال. وقام صدام لاحقًا بإعدام عشرات رجال الدين الشيعة في العراق في محاولة لـ “لجم المدّ الأيديولوجي” الذي أشعلته “الثورة”.
أما الشاه، فقد توفي في منفاه بمصر عام 1980 بعد معاناة مع السرطان، دون أن تطأ قدماه إيران مجددًا.
ماذا لو؟
لو قبِل الشاه عرض صدام، هل كانت إيران ستسلك مسارًا آخر؟ هل كانت ستتحول إلى ديمقراطية أو ملكية دستورية أو على الأقل نظام أقل أيديولوجية؟ لا أحد يعلم على وجه اليقين. لكن المؤكد أن قرارًا واحدًا، اتُخذ بهدوء وفي الظل، ساهم في إعادة تشكيل تاريخ بلد، ومسار منطقة بأكملها.