تُعدّ كتابة النثر لدى الشاعر الفلسطيني الراحل أمجد ناصر (كتابة الذات) امتدادًا لتجربته الشعرية الغنية، ونافذةً جديدةً تعكس رؤيته للعالم وخبراته الحياتية المتنوعة. لم يقتصر ناصر على قصيدة النثر، بل توسّع في النثر التقليدي ليشمل الرحلات والتجارب الشخصية، مقدمًا بذلك إضافة نوعية للأدب العربي الحديث. وقد شهدت هذه التجربة النثرية تطورًا ملحوظًا بدءًا من منتصف التسعينيات، متأثرةً بنضجه الفكري والشعري.
ورغم أن الشعر كان الأساس في مسيرة ناصر الإبداعية، إلا أن النثر اكتسب أهمية متزايدة، وأصبح وسيلةً للتعبير عن أفكار وتأملات لا يمكن استيعابها في قالب القصيدة. وقد أثرت هذه التجربة في تطوير أسلوبه اللغوي وقدرته على التصوير، مما جعل كتاباته النثرية تتميز بعمقها وجمالها. تأتي هذه الكتابات بمثابة شهادة حية على مسيرة حياة مليئة بالتقلبات والتجارب، حيث يجمع ناصر بين السيرة الذاتية والوصف الدقيق للأمكنة التي زارها.
أهمية تجربة أمجد ناصر في كتابة الذات
تتميز كتابة الذات لدى أمجد ناصر بأنها ليست مجرد سرد لأحداث شخصية، بل هي عملية إعادة بناء للذاكرة والتاريخ، من خلال منظور ذاتي فريد. وبحسب ما ورد في العديد من دراساته وكتاباته، فإن النثر كان بالنسبة له بمثابة مساحة أوسع للتعبير عن أفكاره وتأملاته، بعيدًا عن قيود القصيدة. وقد انعكس هذا التوجه على تنوع أعماله النثرية، التي شملت الرحلات والمقالات والشهادات، بالإضافة إلى الروايتين اللتين أصدرهما.
تتضمن أعماله النثرية البارزة “خبط الأجنحة: سيرة المدن والمقاهي والرحيل” (1996)، و”تحت أكثر من سماء: رحلات إلى اليمن، لبنان، عُمان، سورية، المغرب، وكندا” (2002)، بالإضافة إلى “طريق الشعر والسفر” (2008) و”الخروج من ليوا” (2010). كما أصدر ناصر “رحلة في بلاد ماركيز” (2012)، و”بيروت صغيرة بحجم راحة اليد” (2012)، و”خذ هذا الخاتم” (2014). وتُظهر هذه الأعمال تنوع اهتماماته الفكرية والثقافية، واهتمامه الكبير بالأمكنة والتاريخ والثقافة العربية.
الرحلة والتجربة الشخصية في كتاباته
تعتبر الرحلة محركًا أساسيًا في كتابات ناصر النثرية، حيث يسافر إلى أماكن مختلفة، ويتفاعل مع الثقافات والشعوب، ثم يعود ليكتب عن هذه التجارب بمنظور ذاتي فريد. ويستخدم ناصر الرحلة كأداة لاكتشاف الذات وفهم العالم، ويقدم لنا من خلال كتاباته صورة حية للأمكنة التي زارها، وللناس الذين التقى بهم. ويولي ناصر اهتمامًا خاصًا بتفاصيل الحياة اليومية، وثقافة المكان، وتاريخه، ويقدم لنا من خلال ذلك بانوراما شاملة للعالم العربي، وللثقافات الأخرى.
المنظور الشعري في الكتابة النثرية
لا يمكن فصل كتابة النثر لدى ناصر عن تجربته الشعرية، حيث يظل المنظور الشعري حاضرًا في جميع أعماله. يستخدم ناصر اللغة الشعرية في كتاباته النثرية، ويولي اهتمامًا خاصًا بالصور والمجازات، مما يجعل كتاباته تتميز بجمالها وعمقها. ويوظف ناصر أسلوب التداعي الحر، والانتقال بين الأفكار والصور، مما يجعل كتاباته تبدو وكأنها قصيدة نثرية طويلة. إن هذا الدمج بين الشعر والنثر يعكس رؤية ناصر الشاملة للأدب، واعتقاده بأن جميع الأشكال الأدبية يجب أن تتكامل وتتفاعل مع بعضها البعض.
الرواية كفضاء لتعبيراته الذاتية
بالإضافة إلى الرحلات والمقالات، نشر ناصر روايتين هما “حيث لا تسقط الأمطار” (2010) و”هنا الوردة” (2017). وعلى الرغم من أن هاتين الروايتين تنتميان إلى جنس الرواية، إلا أنهما تحملان بصمات تجربته النثرية، وبخاصة فيما يتعلق بالاستكشاف الذاتي والتأمل في قضايا الوجود. تسلط الروايتان الضوء على جوانب من حياته الشخصية، وتستلهمان من تجاربه وتأملاته. كما أنهما تعتمدان على تقنيات سردية معقدة، وعلى لغة شعرية غنية، مما يجعلهما جزءًا لا يتجزأ من تجربته الأدبية الكلية.
تُظهر أعمال ناصر النثرية، بشكل عام، قدرته الفائقة على المزج بين الأشكال الأدبية المختلفة، وعلى تقديم رؤية فريدة للعالم. وتعتبر كتاباته إضافة قيمة للأدب العربي الحديث، وشهادة حية على إبداع فنان حقيقي. إن أسلوبه الأدبي المتفرد، واهتمامه بالقضايا الإنسانية والاجتماعية، سيجعلانه حاضرًا في ذاكرة الأدب العربي لسنوات طويلة قادمة.
يتوقع النقاد استمرار البحث والدراسة في أعمال أمجد ناصر النثرية، خاصةً مع توفر المزيد من المقالات والدراسات التي لم تنشر في كتب، والتي تحتاج إلى جمع وتصنيف. ومن المُرجح أن تُساهم هذه الدراسات في فهم أعمق لتجربته الإبداعية، وفي إبراز أهمية كتاباته في المشهد الأدبي العربي. لا تزال هناك حاجة إلى تحليل معمق للعلاقة بين شعره ونثره، وكيفية تأثير كل منهما على الآخر.













