لم يعد الاكتفاء بالتحذير كافيا في نظر القادة العسكريين والسياسيين في أوروبا، إذ تتجه الجيوش الأوروبية إلى الاستعداد الفعلي لاحتمال صدام عسكري مع روسيا خلال السنوات القليلة المقبلة. هذا الاستعداد المتزايد يأتي في ظل تقييم متزايد للتهديد الذي تمثله موسكو، وتحديثات واسعة النطاق لخطط الدفاع الإقليمي، مع التركيز بشكل خاص على سيناريوهات الحرب مع روسيا. بعد نحو أربع سنوات على اندلاع الحرب في أوكرانيا، تتعامل العواصم الأوروبية مع موسكو باعتبارها تهديدا مباشرا وقصير الأمد لأمن القارة.
وفي هذا السياق، حذّر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (ناتو) مارك روته من أن أوروبا قد تواجه حربا “بحجم ما عرفه أجدادنا”، مشيرا إلى سيناريوهات تشمل دمارا واسعا، وتعبئة جماعية، وملايين النازحين، وخسائر بشرية جسيمة. ويهدف هذا الخطاب، وفق دوائر عسكرية، إلى إحداث صدمة ورفع مستوى الوعي العام بخطورة المرحلة.
الاستعداد العسكري المتزايد في أوروبا: سيناريوهات الحرب مع روسيا
يشهد المشهد الأمني الأوروبي تحولا كبيرا، حيث تتجه الدول إلى إعادة تقييم قدراتها الدفاعية والاستعداد لمواجهة تهديد روسي محتمل. هذا التحول لا يقتصر على زيادة الإنفاق العسكري، بل يشمل أيضا إعادة التفكير في الاستراتيجيات العسكرية والسيناريوهات المحتملة للصراع. وترافق هذا التحول مع عودة قوية لمفهوم “الاستباق الإستراتيجي” داخل مراكز صنع القرار، من مكاتب التخطيط العسكري وأجهزة الاستخبارات إلى مراكز الأبحاث والدوائر السياسية.
وتتركز النقاشات حاليا على طبيعة أي مواجهة محتملة بعد توقف القتال في أوكرانيا، مع طرح أسئلة حول كيفية تحرك روسيا، وما هي أهدافها، وكيف سيكون رد فعل الولايات المتحدة أو الصين. الأهم من ذلك، تتساءل الدول الأوروبية عما إذا كانت تمتلك القدرة على الصمود في مواجهة طويلة الأمد، مع الأخذ في الاعتبار التحديات الاقتصادية والسياسية الداخلية.
تحديث خطط الدفاع الإقليمي لحلف الناتو
قام حلف الناتو بالفعل بتحديث خطط الدفاع الإقليمي، والتي تحدد كيفية التصدي لأي هجوم محتمل على كل منطقة في أوروبا. هذه الخطط تعتبر “إطارا عاما” تعتمد عليه الدول الأعضاء في تدريباتها وتوزيع أدوارها. ومع ذلك، فإن الدول الكبرى، مثل فرنسا، لا تكتفي بذلك، بل تطور خططا وطنية متكاملة منسجمة مع الإستراتيجية الجماعية للحلف.
وتشير التقارير إلى أن هذا التنسيق يهدف إلى ضمان جاهزية مشتركة وسريعة، على الرغم من محدودية الموارد وتعدد التهديدات، بما في ذلك المسيرات والهجمات السيبرانية، فضلا عن حماية الأقاليم الفرنسية ما وراء البحار ومواجهة التهديد الإرهابي. التركيز على الحرب الهجينة يمثل جزءا أساسيا من هذا الاستعداد.
فرنسا وتطوير سيناريوهات الصراع المحتمل
أعد الجيش الفرنسي 14 خطة مختلفة تمثل فرضيات لصدام محتمل، مقارنة بـ6 خطط فقط في السابق. تستند هذه الخطط إلى “المراجعة الوطنية الإستراتيجية” التي نُشرت في يوليو/تموز الماضي، والتي حددت هدفا مركزيا يتمثل في استعداد فرنسا، بحلول عام 2030، للمشاركة مع حلفائها في نزاع عالي الشدة ومستدام على حدود أوروبا. وتأخذ هذه السيناريوهات في الحسبان “ارتدادات” داخلية محتملة، مثل عمليات تخريب أو زعزعة استقرار على الأراضي الفرنسية نفسها.
لا يقتصر التفكير العسكري على سيناريوهات تقليدية، مثل تحرك دبابات روسية نحو قلب أوروبا، والتي تُعد الأقل ترجيحا، بل يمتد إلى خيارات أكثر تعقيدا. وتشمل الاحتمالات استفزازات محدودة في دول البلطيق، أو محاولة السيطرة على ممر سوالكي الإستراتيجي، أو الضغط في منطقة القطب الشمالي، أو زعزعة استقرار دول خارج الناتو مثل مولدوفا. هذه السيناريوهات تعكس تقييما واقعيا للقدرات الروسية والأهداف المحتملة.
بالإضافة إلى ذلك، ينظر الأوروبيون بجدية إلى التهديدات البحرية والفضائية، والهجمات الهجينة التي قد تختبر تماسك الحلف دون الوصول إلى غزو مباشر واضح. وتشمل هذه التهديدات الهجمات السيبرانية التي تستهدف البنية التحتية الحيوية، والتدخل في الانتخابات، ونشر المعلومات المضللة.
ولتعميق هذا التفكير، أنشأت فرنسا “فرقا حمراء” داخل مؤسساتها العسكرية، مهمتها تقمص دور صانع القرار الروسي والبحث عن نقاط الضعف الأوروبية. هذه الفرق تعمل على تحليل الاستراتيجيات الروسية المحتملة وتحديد الثغرات في الدفاع الأوروبي.
ويأتي هذا الاستعداد في وقت لم يعد فيه احتمال تراجع الانخراط الأميركي مجرد فرضية نظرية، بل مسألة توقيت، مما يزيد من قلق الأوروبيين. الاعتماد على الولايات المتحدة في مجال الأمن والدفاع يمثل تحديا كبيرا في ظل التغيرات السياسية في واشنطن.
وتخلص التقديرات إلى أن أي اختبار روسي لن يكون عسكريا فقط، بل سيقيس أيضا الإرادة السياسية والقدرة الاقتصادية للمجتمعات الأوروبية على تحمل كلفة حرب طويلة، في ظل تحديات ديمغرافية ومالية متزايدة. الاستعداد الاقتصادي والاجتماعي للحرب يمثل جزءا أساسيا من الاستراتيجية الأوروبية.
من المتوقع أن تستمر الدول الأوروبية في تعزيز قدراتها الدفاعية وتحديث خططها العسكرية في الأشهر والسنوات القادمة. سيشمل ذلك زيادة الإنفاق العسكري، وتطوير أسلحة جديدة، وتحسين التدريب العسكري. ومع ذلك، لا تزال هناك العديد من التحديات التي تواجه أوروبا، بما في ذلك نقص الموارد، والانقسامات السياسية، وعدم اليقين بشأن مستقبل الانخراط الأميركي. ما يجب مراقبته هو مدى قدرة أوروبا على التغلب على هذه التحديات والاستعداد لمواجهة تهديد روسي محتمل.












