يُمثّل الوعي ركيزة في شخصية «أبو عبدالخالق»، فالقراءة التي سبق إليها، والذكاء الذي تميّز به، أغرقه في محيط التنظيرات والفلسفة، وتوليد الأفكار التي استثمرها غيره، ولم يكن يعبأ بما يُنسب إليه، وما يُسلب منه، فالغاية أن تصل الفكرة، إلا أن بصمته ظاهرة في شخصيات ونتاج جيل بأكمله على امتداد الوطن، وظلّ هو كما هو، طاقةً خلّاقة تعتني بيومها، ولا يعنيها ما حصل بالأمس. وإذا كان من عادة الأيام وطبع السوء في البشر التجني على شعراء، ومبدعين، والافتراء عليهم، منذ امرئ القيس، مروراً بطرفة بن العبد، وليس انتهاءً بمحمود درويش، ومحمد الثبيتي، فإنّ «الولد الذبيح» ظلم نفسه بنفسه، أكثر من مرة، باختيارات كان يراها الأمثل، فظهر أنها الأفشل، فأصبح يردد مع أبي الطيّب «عشيّةَ أحفى الناسُ بي مَنْ جفوته، وأهدى الطريقين التي أتجنّبُ».
قبل أعوام عدة، قرر «ابن زايد» مواجهة الموت بكتابته، فقال: «سأموت قليلاً، وستحزنون مؤقتاً، ستحتفلون، وتتحدثون عن عمق سخريتي، وذكاء التافه من أقوالي، وستتجاهلون القصائد التي أحببتُ، وتبررون أخطائي، والشعر العظيم، الذي لم أقله بعد!».. وظل يقرع أجراس الرحيل: «لم يعد في العمر متّسعٌ، كي تميل إلى ضدِّهِ أو إليه»، وزاد في نبؤة: «أنا عائدٌ للبيت منطفئ، كنايٍ دون ريح، أنا ذابلٌ ومؤجلٌ مثل الخريفِ ومهملٌ خلف القصيدةِ غائمٌ لا أرتجي سفناً وطوفاناً أنا الولدُ الذبيح!».
وليس محمد زايد الألمعي شاعراً فحسب كما يراه البعض، بل صاحب رؤى وأفكار تنوس شموعها بين العبقرية والجنون، بدأ حياته معلماً إثر تخرجه من كلية المعلمين في أبها، ثم في حموة وطيس الصحوة والحداثة خرج من أبها ليدرس زراعة المناطق الجافة في جامعة الملك عبدالعزيز، ثم اشتغل في الصحافة الثقافية وفي جريدة «البلاد»، أعد ملحقاً أدبياً، قبل أن يؤسّس مع آخرين مجلّة «بيادر» الأدبية التي تصدر عن نادي أبها الأدبي، ثم يعمل في صحيفة الوطن، ويترأس مجلس إدارة نادي أبها الأدبي.
ولد الألمعي عام 1958 في قرية رجال ألمع بمنطقة عسير، وظل في أعوامه الأخيرة يشد رحاله، من صنعاء إلى باريس إلى القاهرة التي يعشقها، ويرى صخبها ملهماً ومجدداً لعشق الحياة، ليرحل في معشوقته، ليلة الـ18 من ديسمبر الماضي، ليعود مُسجى ويُدفن في وطنه الذي طالما تغنى به.