نشأت موسيقى الـ”راب” الحديثة في الولايات المتحدة الأميركية، وتحديدا في حي برونكس بنيويورك في سبعينيات القرن العشرين، لتتحول إلى ظاهرة ثقافية عالمية. وفي العالم العربي، شهدت موسيقى الـ”راب” تطوراً ملحوظاً، بدءاً من بدايات الألفية الجديدة، حيث أصبحت وسيلة للتعبير عن قضايا الشباب وهمومهم الاجتماعية والسياسية، متأثرة بالمشهد الغربي ولكنها سرعان ما اكتسبت طابعاً محلياً مميزاً.
بدأت كنمط ارتجالي يُعرف بـ”إم سيينغ” (MCing)، إذ يُلقي المؤدي كلمات مقفّاة وساخرة على إيقاع متكرّر، وسرعان ما أصبحت أحد أركان ثقافة الـ”هيب هوب”. وبعد سنوات من الانتشار والتطور، أصبحت موسيقى الـ”راب” جزءًا لا يتجزأ من المشهد الثقافي العربي، وتحظى بشعبية واسعة بين الشباب.
الراب العربي: من الاحتجاج إلى صناعة موسيقية
جاءت بداية موسيقى الـ”راب” العربية بإيقاع سريع وكلمات غاضبة، لكن هذا الغضب تحول إلى مرايا تعكس التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية الكبرى. وخرجت أغانيه من الأزقة والحواري إلى الفضاء العام، لتعبر عن المهمشين وتنأى بنفسها عن هم الرومانسية ودموع العشاق. إلا أن السنوات الأخيرة شهدت تحولاً ملحوظًا في طبيعة هذا الفن، حيث أصبح جزءًا من صناعة موسيقية تعتمد على التسويق والانتشار الرقمي.
في تونس ما بعد 2011، شكّلت أغاني الـ”راب” أحد أوجه الاحتجاج ضد السلطة، وفي فلسطين تحت الاحتلال، صار الـ”راب” يوميات مقاومة محكية. وفي مصر والمغرب، يناور المشهد لغة الشارع ومنطق السوق، ليجد المستمع نفسه أمام سؤال مصيري: هل فقدت أغاني الـ”راب” أصالتها أم أنها تواكب الزمن وتحاول البقاء في الضوء؟
التعبير عن الهوية والقضايا الاجتماعية
توصف موسيقى الـ”راب” بأنها “فن مقاوم” ينتمي إلى طبقة ويرتبط بهوية رئيسة هي الاحتجاج والغضب. فرقة “دام” (DAM) الفلسطينية، كانت من أوائل من استخدم الـ”راب” في النقد السياسي من خلال أغنيتهم الشهيرة “مين إرهابي؟” سنة 2001، والتي تناولت قضايا الهوية والظلم السياسي. وقد تحولت الأغنية إلى مادة تحليل أكاديمي وثقافي في العديد من الدراسات النقدية.
كما برزت مجموعات أخرى مثل “بلاتنم” (BLTNM) بأعمالها التي تعبر عن واقع الشباب الفلسطيني، ونجحت في الانتشار عبر منصات غير تجارية، مما أكد دور الـ”راب” كصوت للشارع الغاضب. ولا يقتصر الأمر على فلسطين، بل يشمل دولاً عربية أخرى، حيث يستخدم الـ”راب” للتعبير عن قضايا البطالة، الفقر، والقمع السياسي.
التحول إلى صناعة موسيقية
كانت أغنية “دورك جاي” 2019 للرابر المصري ويجز بمثابة لحظة فاصلة في تاريخ الـ”راب” المصري والعربي، حيث حققت نجاحًا جماهيريًا واسعًا، وساهمت في إبراز هذا النوع الموسيقي إلى الواجهة. وتبع ذلك ظهور العديد من الرابرين المصريين الآخرين، مثل مروان بابلو وعفروتو، الذين نجحوا في بناء قاعدة جماهيرية كبيرة، وتحقيق أرقام استماع عالية عبر منصات البث الرقمي.
ودخل الـ”راب” إلى قوائم الأعلى استماعا على “سبوتيفاي” و”يوتيوب”، وحقق ملايين المشاهدات. كما بدأ في الظهور في الإعلانات التجارية، والأفلام السينمائية، مما يشير إلى اعتراف الصناعة الموسيقية بأهمية هذا النوع الموسيقي.
الراب المغربي.. صمود تحت الضوء
في المغرب، حافظ الـ”راب” على هويته وأصالته، على الرغم من محاولات تسويقه. فنانون مثل ديزي دروس، تمكنوا من تقديم أعمال فنية عالية الجودة، تعبر عن واقع المجتمع المغربي، وتناقش قضايا سياسية واجتماعية مهمة. كما برز ثنائي “شايفين” بتجربتهم الموسيقية المبتكرة، التي تجمع بين الموسيقى العربية التقليدية والموسيقى الحديثة.
أحد التحديات التي تواجه الـ”راب” المغربي هو الحفاظ على اللهجة المغربية، ورفض استخدام اللهجات الأخرى، وهو ما يعتبره البعض تعبيرًا عن الهوية والانتماء.
مستقبل موسيقى الراب في العالم العربي
وبعد التحولات التي شهدتها موسيقى الـ”راب” في العالم العربي، يبرز سؤال: هل ستستمر في الحفاظ على هويتها الأصلية، أم ستتحول إلى مجرد منتج استهلاكي؟ الإجابة على هذا السؤال تعتمد على عدة عوامل، منها دور الفنانين في الحفاظ على أصالة أعمالهم، ودعم الجمهور لأعمالهم الفنية، وتطور الصناعة الموسيقية في المنطقة.
يتوقّف مستقبل الـ”راب” على من يمتلك الشجاعة ليقول “لا” لشروط المنصّة، ويعيد صياغة النجاح وفق معيار التأثير الحقيقي لا عدد المشاهدات. ومن المتوقع أن تشهد السنوات القادمة المزيد من التطورات في هذا المجال، وظهور المزيد من المواهب الشابة، التي ستساهم في إثراء المشهد الثقافي العربي.
ومع تزايد عدد المستمعين، وتوسع نطاق انتشار الـ”راب” في العالم العربي، فإن هذا النوع الموسيقي سيظل يلعب دوراً هاماً في التعبير عن إرادة الشباب، وتعزيز الحوار الثقافي والاجتماعي.












