هناك لحظات لا يصنعها الزمن، بل تصنعه، ومشاهد لا ترسمها الريشة، بل ترسمها الروح، وأصوات لا تعزفها الآلات، بل تعزفها الخطوات فوق العشب الأخضر. هناك ومضات من السحر تتجاوز حدود الرياضة لتصبح لغة للقلوب، تنبض بها الملاعب كما تنبض القصائد، وتذوب فيها الجماهير كأنها أمام معجزة تتجلى على مرأى العيون. في كل عصر يطل نجم يحمل في يديه نوراً مختلفاً، يوقظ الطفولة في صدورنا، ويعيد إلينا إيماننا بالجمال، ويذكرنا أن الحياة لا تُقاس بعدد الأيام، بل بعدد اللحظات التي تسلب أنفاسنا.
ومن بين كل تلك اللحظات، وُلد اسمٌ أصبح مرادفاً للدهشة، اسمٌ صغير الجسد كبير الطموح، فتى نحيل شقّ طريقه بين العواصف حتى صار أيقونة، وأسطورة، ووجهاً للمتعة الخالصة: ذاك هو ليونيل ميسي.
لم يأتِ إلى الملاعب لاعباً فقط، بل جاء شاعراً يكتب قصائده بقدميه، وجاء رساماً يلقي بريشته على العشب لوحاتٍ لا تمحوها الذاكرة. كلما لمس الكرة تبدلت قوانين اللعبة، وكأنها لم تعد تُلعب بالعقل وحده، بل بالإحساس، بالفطرة، بالموهبة التي لا تُشترى ولا تُعلَّم.
هو الحلم الذي أفاقت عليه الملايين، والدهشة التي لم تشبع منها العيون. من طفولته في روزاريو إلى مجده في برشلونة، من أهازيج باريس إلى لحظة التتويج الخالدة بكأس العالم، ظل يزرع في القلوب يقيناً أن الجمال قد ينتصر في النهاية، وأن العظمة الحقيقية لا تصرخ، بل تهمس فتبلغ الآفاق. لقد علّمنا أن التواضع هو أبهى صور المجد، وأن العظمة لا تكتمل إلا حين تكون مغموسة بالبساطة. لم يكن نجماً متكبراً ولا بطلاً متجبراً، بل إنسان يلعب الكرة كأنها لعبة أطفال، ويمنح العالم كله معنى جديداً للرياضة: أن تكون إنساناً أولاً، فناناً ثانياً، وبطلاً أخيراً.
هو ليس مجرد بطل تتغنى به الميادين، بل ذاكرة حيّة ستبقى ما بقيت الكرة تدور على العشب. لم يمنحنا انتصارات فحسب، بل منحنا معنى أعمق للدهشة، أعاد إلينا الإيمان بأن في العالم لحظات نقية تستحق أن تُعاش. لم يكن حدثاً في الرياضة، بل كان زمناً كاملاً، زمناً من الضوء والعذوبة، من السحر والبساطة، زمناً سيظل في القلوب كما يظل الندى على الورود عند الفجر، قصير العمر في حضوره، خالد الأثر في غيابه.
وكما تمضي الليالي تاركة في قلوبنا بصمات من نور، تمضي بعض الأرواح لتصير علامات لا تزول. ثمة من يرحل في الجسد ويبقى في المعنى، من يختفي عن العيون لكنه يتوغل في الذاكرة كالنشيد.
إن الجمال الحق لا يحتاج إلى اسم ليُستدعى، يكفي أن يمرّ في خاطرنا فنشعر أن الحياة كانت أكرم بنا، وأن الدهشة قد زارتنا مرة، وربما مرة تكفي لتظل أبديّة.
أخبار ذات صلة