كما يطلق المولود صرخة الحياة فور خروجه من بطن أمه، فإن أحداث ميلاد كونية تطلق هي الأخرى صرخات من نوع خاص، تم رصدها لأول مرة، لتكون داعمة لنظرية النسبية للعالم ألبرت أينشتاين. وتدور تفاصيل هذه الأحداث الكونية حول ثقوب سوداء ولدت من اندماجات هائلة، ثم تكبر لتندمج مرة أخرى منتجة “أجيالا” جديدة، وكأن الكون يلد أحفادا من ثقوبه السوداء.
وكان الدليل على هذه الأحداث، التي يتم رصدها لأول مرة، هو تمكن العلماء من توثيق لحظة ولادة الأحفاد، التي لم تتكون من موت نجم، بل من اندماج آباء وأجداد، في دورة حياة فريدة لا تحدث إلا في أعماق الفضاء. وقد تم رصد هذه الظاهرة باستخدام مرصد ليغو لموجات الجاذبية، حيث تمكن العلماء من رصد اهتزازات في نسيج الزمكان الناتجة عن اندماج ثقوب سوداء.
طاولة البلياردو ونسيج “الزمكان”
ولتقريب هذا الاكتشاف الذي وثقه العلماء في دراسة بدورية “أستروفيزكال جورنال ليترز”، تخيل طاولة بلياردو هي أشبه بالكون، وعليها كرة تضرب أخرى فتندمج وتنتج واحدة أكبر، ثم تصطدم الكرة الأكبر من جديد بأخرى، منتجة ثالثة أضخم “الحفيد”. ومع كل اصطدام، تهتز الطاولة لحظة، لكن في الكون، الذي يهتز هو نسيج الزمكان نفسه الذي يرتجف مرسلا موجات جاذبية التقطتها مراصد ليغو الأميركي، وفيرغو الأوروبي، وكاغرا الياباني.
ونسيج الزمكان مفهوم أساسي في نظرية النسبية العامة لألبرت أينشتاين، ويعني أن الكون ليس مجرد فضاء فارغ، بل هو “نسيج” مرن مكون من الزمان والمكان معا، يتأثر بوجود الأجسام الضخمة مثل الكواكب والنجوم. وقد تم رصد اهتزاز هذا النسيج مرسلا موجات ناتجة عن اندماج ثقبين أسودين بكتلة تعادل 17 و7 أضعاف كتلة الشمس، على بعد 700 مليون سنة ضوئية.
ورصد العلماء يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول 2024 اهتزاز هذا النسيج مرسلا موجات ناتجة عن اندماج ثقبين أسودين، وكشف تحليل هذا الحدث -الذي سُمي “جي دبليو 241011”- عن أن الثقب الناتج يدور بسرعة من بين الأعلى دورانا التي تم قياسها على الإطلاق. وبعد ذلك بشهر واحد فقط، في 11 نوفمبر/تشرين الثاني، سجل الفريق حدثا آخر “جي دبليو 241110″، نتج عن اندماج ثقبين بكتلة 16 و8 كتلة شمسية على بعد 2.4 مليار سنة ضوئية.
ما علاقة الاكتشاف بنظرية أينشتاين؟
وقبل أكثر من 100 عام، تخيل أينشتاين في نظريته النسبية العامة الكون كنسيج مرن يمكن أن يهتز ويتموج إذا اهتزت داخله أجسام هائلة الكثافة. وقال يومها إنه “عندما تتصادم ثقوب سوداء أو تندفع بقوة، سيهتز هذا النسيج وتنتشر موجات الجاذبية عبر الفضاء، مثل تموجات الماء بعد رمي حجر في بحيرة هادئة”.
في ذلك الوقت، بدا الأمر خيالا علميا، لكن اليوم، تثبت “أحفاد الثقوب السوداء” أن خيال أينشتاين كان حقيقة تنتظر أن نكتشفها. وعندما استمع العلماء للموجات الناتجة عن هذه التصادمات، وجدوا بصمة دقيقة في طريقة دوران هذه الثقوب وطريقة اهتزاز موجات الجاذبية حولها، وكانت هناك “نغمة إضافية” مخفية، أشبه بصوت عال خافت لا نسمعه إلا عندما ندق على وتر آلة موسيقية بقوة شديدة.
ويقول كارل يوهان هاستر، الأستاذ المساعد في الفيزياء الفلكية بجامعة نيفادا، لاس فيغاس بأميركا، وأحد المشاركين بهذا الاكتشاف: “يقدم كل اكتشاف جديد رؤى مهمة حول الكون، مذكرا إيانا بأن كل اندماج مرصود لا يعد اكتشافا فيزيائيا فلكيا فقط، ولكنه أيضا مختبر قيم لسبر أغوار القوانين الأساسية للفيزياء”.
ويتابع هاستر أن “تم التنبؤ بثنائيات كهذه بناء على ملاحظات سابقة، ولكن هذا أول دليل مباشر على وجودها”. ويتوقع العلماء أن يستمر رصد المزيد من الأحداث المماثلة، مما سيساعد في فهم أعماق الكون والتحقق من صحة النظريات الفيزيائية.













